الحكومة والاعتماد على الذات.. بين الشعار والواقع
عقل صلاح
ترفع الحكومة الجديدة الحالية شعارات كبيرة مع الأمل والطموح بأن تتحقق، ومنها الإصلاح بأنواعه الإداري والمالي والاقتصادي وتفعيل الحوكمة والتركيز أكثر بالاعتماد على الذات، أو على أنفسنا، ومن ذلك ترشيد النفقات وضخ الكفاءات والشفافية في التوظيف ودمج أعمال، أو جهات وزيادة فعالية الإيرادات والحد من التسيب سواء في نفقات أو أعمال يمكن بسهولة الحد منها، وما إلى ذلك من خطط وبرامج وسياسات تصب في سياسة الاعتماد على الذات أو في اتجاه تحقيق الأهداف التي وضعتها الحكومة الحالية لها.
وبدون شك، فإن رفع الحكومة الجديدة لهذه الشعارات يأتي في ظل أوضاعنا الصعبة القاتمة، وفي ظل تداعي الدعم المادي وغير المادي بأنواعه، وفي ظل آفاق لا توحي بالإيجابية، وهذا يزيد أهمية بل بحتمية الاعتماد على الذات، هذا الاعتماد الذي يمكن أن يشكل لنا البارقة التي نعتمد عليها لتغيير مسار ليس في صالحنا. والاعتماد على الذات، يعني الاعتماد على المصادر والإمكانيات المحلية المتوفرة، سواء أكانت إمكانيات بشريه أم مادية، والحاجة إلى وجود استراتيجية مدعومة بخطط عمليه واقعيه، توضح الإمكانيات المتوفرة والاحتياجات بصورة شفافة، بعيداً عن التصريحات الكبيرة، وتنطلق من ذلك لترسيخ فلسفة الاعتماد على الذات، لكي تصبح جزءاً من البرامج والخطط الحالية والمستقبلية للحكومة وللمؤسسات وللأفراد، ولكي تصبح جزءاً من تفكير الناس على المديَين القصير والبعيد.
ومعروف أن من أهم أسس أو مقومات البناء والتنمية في المجتمع، هو العنصر البشري، أي الإنسان المتعلم المدرب والقادر على إحداث التغيير والقادر على تطبيق الخطط والبرامج وتحقيق الإنجازات، ومعروف أننا نملك هذا الإنسان وبكثرة، ونحن نعلم أن جامعاتنا وكلياتنا بأنواعها، تُخّرج سنوياً عشرات الآلاف من البشر وفي كل المجالات، والذين تم ويتم استخدامهم في دول كثيرة وفي مجالات يحققون فيها الإبداع والتقدم والتنمية في تلك المجتمعات، وهذا الإنسان هو من أهم الثروات التي نملك، وبالأخص في ظل ضآلة ما نملك من مصادر وثروات طبيعية، وصحيح أن هذا الانسان على استعداد للعمل والبقاء في الأرض إذا وجد الفرصة والإدارة والحافز والاعتراف بالإنجاز وبالشفافية في التعامل.
وفي اقتصاديات دول أُخرى، ومنها الاقتصاديات المتقدمة والتي تنمو بسرعة، بات الإبداع والابتكار مفتاحاً أساسياً من أجل النمو والتقدم، وصحيح أنه لا توجد عندنا بنية تحتية تمتاز بالجودة لجذب الإبداع، ولكن وبالإضافة إلى البنية التحتية، من المفترض توفر الكفاءات والعقول البشرية، وهذا عندنا، ومن المفترض توفر الخطط والاستراتيجيات وتوفر القوانين والتشريعات، وهذا من المفترض أن يكون عندنا، ونحن وفي ظل ضحالة المصادر الطبيعية، نحن الأحوج إلى الاعتماد على الريادة وعلى الإبداع والاختراع والتجديد، لكي نبقى وننافس ويتقدم الاقتصاد، وهذا يأتي بالأساس، من خلال الاستثمار في التعليم والتعلم والأبحاث المرتبطة باحتياجات المجتمع.
وفي البعد السلبي وحسب تقارير ودراسات محلية ودولية متعددة، لا يمكن للاقتصاد الفلسطيني أن يتسم بصفة من الاستدامة في ظل اعتماد هذا الاقتصاد، وبشكل كبير، على مساعدات خارجية، وبأن يبقى مرهوناً بالقرارات الإسرائيلية المتعلقة بالمقاصة والحركة والاستيراد والتصدير والتشغيل، وفي أحد هذه التقارير تم ربط التقدم الاقتصادي الفلسطيني، وبالتالي إمكانية استدامة هذا التقدم، بمدى انخراط ومساهمة واستثمار القطاع الخاص في هذا الاقتصاد، لكن وفي ظل الازدياد المتواصل في عدد العاطلين عن العمل وتواصل الحرب على غزة وتناقص المساعدات الخارجية والجمود السياسي، يبقى الاقتصاد الفلسطيني يراوح مكانه، وتبقى فلسفة الاعتماد على الذات والاستدامة من الآمال والطموحات فيما يتعلق بالتقدم والتنمية الاقتصادية.
ونحن نعرف أن من ضمن العوامل التي تحدد درجة التنافسية وبالتالي آفاق نمو الاقتصاد وتدعيمه والاعتماد على الذات والاستقلالية، جودة البنية التحتية ومقدرتها على جذب وتشجيع ودعم الإبداع والابتكار والريادة، وبات مستوى التقدم في الريادة هو المعيار لتحديد مستوى التقدم عند الدول، أي من خلال تصنيفها "غنية أو فقيرة بالابتكار والريادة"، وأصبح التنافس على مستوى الدول أو الشركات، وبالتالي النجاح والتقدم وحتى البقاء يقاس بمدى القدرة على تقديم الجديد الذي يلبي حاجات الناس ويخدم مصالحهم.
وبالإضافة إلى التركيز على الإبداع والابتكار كمسارات استراتيجية للاعتماد على الذات ولنمو الاقتصاد، يجب التركيز على الاقتصاد الأخضر أو الاقتصاد الدائري، أو الاقتصاد المستدام، وهو الاقتصاد الذي تتم إدراته بصورة مستدامة وفعالة وصديقة للبيئة، أي بدون استنزاف اقتصادي وبيئي، ومن هذا المنطلق فأن البناء الاخضر مثلا، يجب أن يراعي الجوانب البيئية، قبل البناء، من حيث اختيار موقع البناء، وخلال البناء من حيث اختيار المواد المستخدمة في البناء، مثل استخدام التربة والحجارة المحيطة بالمنطقة، واستعمال الرمل، والمواد التي لا تلوث البيئة او تستنزف مصادرها.
ونمو الاقتصاد المستدام يهدف الى ترشيد استخدام الطاقة والمياه، وتقليل إنتاج النفايات بأنواعها المختلفة، خلال وبعد الانتهاء من البناء، مثل استخدام الطاقة الشمسية، أو المتجددة بشكل أساسي وفعال، وإعادة تكرير المياه واستخدام المياه الرمادية، ووجود أنظمة من أجل فصل وتدوير النفايات، وهناك مؤسسات تحدد معايير وأسس ومواصفات لذلك، وهناك دول تقوم بمنح الحوافز والتشجيع من أجل التوجه إلى هذا النوع من الاقتصاد الذي يعمق الاعتماد على الذات من حيث البشر والمصادر المتوفرة.
وفي ظل تواصل القيود التي فرضتها علينا اتفاقيات أو أمور عديدة، ومن أجل الاعتماد أكثر على الذات، وتحقيق نمو حقيقي، ولو كان ضئيلاً، للاقتصاد الفلسطيني، ومن أجل تغيير على الأرض يمكن أن يلمسه المواطن، بعيداً عن قرارات وتوصيات المؤتمرات، فإننا من المفترض أن نتجه ومن خلال استراتيجية وطنية شاملة وملزمة ومحمية بقوانين وتشريعات، ومن خلال تشجيع التكنولوجيا والمبادرات والخبرات، ومن خلال الحوافز والدعم، إلى مصادر الطاقة المستدامة أو الطاقة المتجددة، أو الصديقة للبيئة أو النظيفة، ومنها الشمس والرياح والمياه والغاز وما إلى ذلك، من مصادر نستطيع أن ننتجها ولو بشكل تدريجي أو تراكمي، وفي الوقت نفسه نستغني وبشكل تدريجي عن مصادر طاقة تكبل أيدينا، وتستنزف أموالنا وتلوث بيئتنا، وما يترتب على ذلك من مضاعفات سلبيه على فلسفة الاعتماد على الذات.
ومع كل الأمل والدعم بأن تحقق الحكومة الجديدة جزءاً من الشعارات التي ترفعها، في ظل الأوضاع الحالية والتغيرات العميقة التي تحدث في بلادنا وداخل مجتمعنا، وفي ظل التقلبات السياسية والاقتصادية والاجتماعية الكبيرة التي نشهدها، أصبح التركيز والاستثمار في قطاعات الإنتاج، وبالتحديد الأمن الغذائي، يرتبط بشكل مباشر بفلسفة وأسس الاعتماد على الذات، وبالتالي ولكي نضع الخطط لجسر أو لتخفيف فجوة الأمن الغذائي عندنا، فإننا يجب أن نركز على إنتاج غذائنا بأنفسنا وباستخدام مصادرنا المتوفرة بالدرجة الأولى، ومن ثم الابتعاد ولو بشكل تدريجي عن ثقافة انتظار المساعدات والاعتماد على الآخرين كما اعتدنا عليه خلال السنوات الكثيرة الماضية، وبأن نعمل بأن يكون هذا التغيير مستداماً وبعيد المدى في إطار تحقيق فلسفة وتطبيق مفهوم الاعتماد على الذات.
------
من المفترض أن نتجه، من خلال استراتيجية وطنية شاملة وملزمة ومحمية بقوانين وتشريعات، ومن خلال تشجيع التكنولوجيا والمبادرات والخبرات، ومن خلال الحوافز والدعم، إلى مصادر الطاقة المستدامة أو الطاقة المتجددة، أو الصديقة للبيئة أو النظيفة، ونستغني وبشكل تدريجي عن مصادر طاقةٍ تُكبّل أيدينا وتستنزف أموالنا وتلوث بيئتنا.