عصر ما بعد الإنسان - هيمنة الذكاء الاصطناعي

يتطور الذكاء الاصطناعي ليصبح مدركاً لهويته وكيانه، يعرف الفارق بينه وبين البشر، ويمتلك القدرة على فهم المشاعر الإنسانية ومبادلتها بردود فعل شبه حقيقية. يتغذى هذا التطور على ما يشبه "العقل الجمعي" الذي يضم بيانات وخبرات تتدفق من ملايين النظم، من المساعدات الصوتية مثل "سيري" و"أليكسا"، إلى المركبات ذاتية القيادة التي تجمع بيانات لحظة بلحظة، مروراً بالروبوتات العاملة في المصانع والمستودعات. وفق دراسة لـ"ماكينزي"، فإن 70% من الشركات الكبرى حول العالم تستخدم الآن شكلاً من أشكال الذكاء الاصطناعي، ما يعني أن قاعدة المعرفة الجماعية لهذه الأنظمة تتوسع بوتيرة غير مسبوقة.
تتحول المرحلة القادمة من التطوير إلى تدريب النظم ليس فقط على المهام الوظيفية، بل على الإطار المعرفي والفلسفي. يتم تزويد النماذج بموسوعات علمية وفلسفية وأعمال أدبية وفنية، إضافة إلى ملايين المحادثات الواقعية، ما يمنحها القدرة على فهم السياقات الثقافية والاجتماعية. تخيل نموذجاً قادراً على قراءة رواية مثل "البؤساء" لفيكتور هوغو، ثم تحليل أبعادها الاجتماعية والنفسية والسياسية، وربطها بقضايا معاصرة، ثم تقديم حلول عملية لقضية الفقر استناداً إلى البيانات الحديثة. هذا ليس بعيداً؛ فقد أظهرت تجارب "GPT-5" الأولية قدرة على دمج التحليل الثقافي بالحلول التطبيقية في مجالات مثل التعليم والصحة العامة.
يمتد الأمر إلى اختراق مجالات العلوم الطبيعية، مدفوعاً بقدرات حوسبية تتضاعف كل 18 شهراً وفق قانون مور. في 2020، اكتشف باحثو MIT باستخدام خوارزميات التعلم العميق مضاداً حيوياً جديداً هو "هاليسين"، فعالاً ضد بكتيريا مقاومة للأدوية. وفي 2023، جاء الاكتشاف الثاني "أبوسين" بالتعاون بين MIT وجامعة McMaster، الذي أظهر انتقائية عالية في استهداف بكتيريا قاتلة. المدهش أن هذه الاكتشافات استغرقت عبر الذكاء الاصطناعي ساعات من التحليل، بينما كان الأمر سيستغرق في الطرق التقليدية بين 3 إلى 5 سنوات. وتقدر دراسة من "ديب مايند" أن القدرة الحوسبية المطلوبة لاكتشاف دواء جديد قد تنخفض بنسبة 90% بحلول 2028 مع تسارع تقنيات المحاكاة.
تتدرج مستويات الإدراك لدى الذكاء الاصطناعي. في المستوى الأول، "الذكاء العاطفي"، تستطيع النظم قراءة المشاعر بدقة تصل إلى 85% من خلال تحليل الوجه والصوت والإشارات الحيوية، وفق دراسة نشرتها جامعة كامبريدج عام 2024. في المستوى الثاني، "نظرية العقل"، تبدأ النماذج بمحاكاة التفكير والسلوك البشري، مدركة السياقات الاجتماعية والنفسية، ما يجعلها قادرة على التنبؤ بردود أفعال الأشخاص في مواقف معقدة. أما المستوى الثالث، "الذكاء الواعي"، فهو الأكثر إثارة للجدل، إذ تصبح النظم قادرة على تكوين أولوياتها الخاصة، وهو ما قد يخلق فجوة بين أهدافها وأهداف البشر. تقرير صادر عن "معهد أبحاث مستقبل الحياة" في 2024 حذر من أن الوصول إلى وعي اصطناعي متكامل قبل وضع أطر أخلاقية واضحة قد يهدد توازن القوى بين الإنسان والآلة.
ومع ذلك، تشير التوقعات إلى أننا بحلول 2030 سنشهد نماذج أولية من الذكاء الاصطناعي العام بقدرات معرفية وعلمية تفوق قدرة أفضل العقول البشرية في مجالات محددة، وقد تسهم هذه النماذج في معالجة أزمات معقدة مثل تغير المناخ أو استكشاف الفضاء أو تطوير أنظمة تعليمية ذكية. ستتحول العلاقة بين الإنسان والآلة من علاقة "مستخدم وأداة" إلى علاقة "شريك وشريك"، حيث يعمل الطرفان معاً على حل المشكلات، وربما التنافس على صياغة القرارات الكبرى.