من الجزائر إلى غزة: نهاية أسطورة القوة وبداية أزمة الشرعية الإسرائيلية

جمال العبادي باحث دكتوراه في العلاقات الدولية

أكتوبر 15, 2025 - 18:36
من الجزائر إلى غزة: نهاية أسطورة القوة وبداية أزمة الشرعية الإسرائيلية

من الجزائر إلى غزة: نهاية أسطورة القوة وبداية أزمة الشرعية الإسرائيلية

جمال العبادي

باحث دكتوراه في العلاقات الدولية

في نهاية خمسينيات القرن الماضي، واجهت فرنسا تحديًا وجوديًا في الجزائر. الحرب التي خاضتها كانت ليست مجرد صراع عسكري، بل اختبارًا للشرعية الأخلاقية والسياسية لمؤسسة الدولة الاستعمارية. حينها أدرك شارل ديغول أن التفوق العسكري وحده لا يكفي لتحقيق الاستقرار أو النصر؛ وأن استمرار الحرب رغم الهيمنة الفرنسية سيؤدي إلى انهيار الشرعية داخليًا وخارجيًا، حتى لو بدا أن السلاح في يد الدولة. فاختار الانسحاب، ليس كخسارة باردة، بل كتحول استراتيجي واعٍ يعيد رسم أولويات القوة والشرعية في فرنسا والعالم الاستعماري.

بعد أكثر من ستة عقود، يبدو أن المشهد الإسرائيلي بعد العدوان الأخير على غزة يحمل أصداء هذا التاريخ. فقد كشف الصمود الفلسطيني، رغم آلة القتل المتقدمة تقنيًا، عن هشاشة مفهوم القوة المطلقة لدى إسرائيل. الصور التي اجتاحت الإعلام العالمي، والتي تظهر الدمار والقتل في قلب غزة، لم تعزز الشرعية الإسرائيلية، بل أبرزت افتقادها للغطاء الأخلاقي والسياسي. هذه المأساة الإنسانية تؤكد أن إسرائيل لم تعد مجرد قوة عسكرية قادرة على فرض واقعها بالقوة، بل كيانًا عاجزًا عن الحفاظ على أي مصداقية أخلاقية أمام الرأي الدولي.

إن الصمود الفلسطيني أعاد تعريف معايير الانتصار والهزيمة في السياسة الدولية. فبينما كانت إسرائيل تعتقد أن التفوق العسكري يكفي لتثبيت هيمنتها، أظهر الواقع أن القدرة على الصمود والتمسك بالحق الأخلاقي والسياسي هي التي تعيد رسم خرائط القوة. وهنا يكمن التشابه الرمزي مع ديغول في الجزائر: كلا الطرفين — الفلسطينيون والجزائريون سابقًا — أجبروا القوى المعتدية على مراجعة مفهومها للهيمنة والنصر، وإدراك أن القوة المفرطة لا تولد الشرعية بل تضعفها.

إسرائيل اليوم تواجه مأزقًا مزدوجًا: داخليًا، حيث يظهر الانقسام السياسي والاجتماعي تأثير الصراع على الهوية الوطنية، ويثير تساؤلات حول مستقبل الدولة إذا استمر نهج القوة المفرطة؛ وخارجيًا، حيث تتزايد الانتقادات الدولية، ويتلاشى الدعم الأخلاقي والسياسي الذي كانت الدولة تعوّل عليه. الأزمة ليست مجرد رد فعل على هجمات غزة، بل أزمة بنيوية في فهم إسرائيل لمفهوم القوة والشرعية في القرن الحادي والعشرين.

الدرس التاريخي المستوحى من ديغول يطرح سؤالًا رمزيًا وحاسمًا: هل تمتلك إسرائيل القدرة على مواجهة الحقيقة، والتوقف عن توظيف القوة بلا حساب للشرعية الأخلاقية والسياسية؟ أم أن النظام السياسي القائم سيستمر في التمسك بالوهم العسكري، متجاهلًا الحقيقة الواضحة: أن الشرعية لا تُصنع بالقوة وحدها؟ الصمود الفلسطيني يفرض أن كل حسابات القوة يجب أن تُعاد كتابتها، وأن النصر لم يعد مرتبطًا بالاحتلال أو التفوق العسكري، بل بـ القدرة على مواجهة الواقع الأخلاقي والسياسي الذي يتطلب التقدير العميق لحقوق الشعوب وكرامتها.

إن المقارنة بين الجزائر وغزة لا تهدف إلى مساواة التجربتين، بل إلى إظهار أن مواجهة إرادة الشعوب غالبًا ما تضع القوى الكبرى أمام أزمة وجودية وأخلاقية. فقد أجبرت الجزائر فرنسا على إعادة تعريف نفسها، وأجبرت غزة إسرائيل على مواجهة هشاشتها الأخلاقية والسياسية أمام العالم. هذا التحول التاريخي يوضح أن الفائز الحقيقي ليس من يملك أكبر آلة قتالية، بل من يمتلك القدرة على البقاء أخلاقيًا وسياسيًا، والقدرة على إعادة تعريف الشرعية العالمية.

 

وبهذا المعنى، يصبح الصمود الفلسطيني حدثًا مفصليًا في رسم أسس السياسة الدولية المعاصرة. لقد أثبت الفلسطينيون أن الانتصار يمكن أن يكون معنويًا وأخلاقيًا قبل أن يكون ماديًا، وأن القيم والحق يمكن أن يعيدا تشكيل موازين القوة. في المقابل، يظل السؤال مفتوحًا أمام إسرائيل: هل ستواصل السير في طريق القوة المفرطة، أم أن صمود غزة سيجبرها على مواجهة واقعها السياسي والأخلاقي، على غرار ما واجهته فرنسا في الجزائر قبل ستة عقود؟

ربما لا نرى اليوم "لحظة ديغولية" داخل إسرائيل، فالبنية السياسية والأيديولوجية الحالية لا تسمح بها. ومع ذلك، يظل التاريخ شاهدًا على أن الهزائم الأخلاقية هي المحرك الحقيقي للتحولات الكبرى، وأن الشعوب التي تصمد، رغم كل الظروف، هي التي تعيد صياغة المفاهيم، وتفرض على القوى الكبرى إعادة حساباتها، ليس على الأرض فحسب، بل في العقل والضمير العالمي.