قوة المثال بين الفرد والجماهير: قراءة في زمن النار

الكاتب : محمد أبو عيد

ديسمبر 6, 2025 - 08:43
قوة المثال بين الفرد والجماهير: قراءة في زمن النار

قوة المثال بين الفرد والجماهير: قراءة في زمن النار

يصنع الفرد الذي يعطي لكل وجهات النظر "مجالها الحيوي" في السرديات المختلفة، ويجعل "الأضداد تتنافر"، ويمنح الجماهير اسمها، ثم يتوارى بينها، ويتقاسم معها البطولة، ويعززها كي تعطي "قوة المثال".

جيفارا لم يكن ليتحوّل قدّيسًا في كاتدرائية حركات التحرر، لو لم يختر في تلك اللحظة ما يريد. وعندما يضحي الفرد بحياته، فإنه يمنح الجميع "قوة المثال": أنه كفردٍ صنع علامة فارقة. فما بالك بالجماهير العريضة لو تحوّلت كلّها إلى هذا الفرد؟ إلى هذا المثال الذي طبّقه جيفارا على نفسه؟
وغزة أعظم بذلك بكثير 

ولنا في إبراهيم الراعي مثال حي على "قوة المثال" كفرد، في صموده حدّ الاستشهاد أثناء التحقيق. ولولا هذا الصمود الأسطوري داخل باستيلات الاحتلال، لَما بقيت تلك اللحظة في الذاكرة.

وهذا ما حدث مع لومومبا، عمر المختار، عبد القادر الجزائري، إبراهيم هنانو، صالح العلي، سلطان باشا الأطرش، عرابي، تشي جيفارا... كل من ناضل ضد القوى الاستعمارية، يجمعهم خيط نضالي واحد يمتد من غواتيمالا وكوبا إلى لبنان وفلسطين وكل دول الجنوب.

ومن قال إن الانتفاضة الثانية لم يكن لها رموزها؟ سواء في المعتقلات أو الساحات؟
ولنا في أسعد الشوا في سجن النقب مثال حي، حين جسّد "قوة المثال"، عندما وقف متحديًا إذلال المعتقلين، ومسدس الضابط الصهيوني في صدره. وعندما أطلق عليه النار، وارتقى شهيدًا هو ورفيقه السمودي، انتفض المعتقلون  "الجماهير" التي كانت تحتاج لشرارة واحدة كي تنفجر.

وفي حالة روابط القرى، كان الشهيد داوود العطاونة المثال الآخر. شعر أن الجماهير  "أي الأهالي" قد تنجرف تحت وطأة "الإرهاب" والتهديد، فوقف وقال لا. وحدث ما حدث. وبارتقاء جسده النحيل، سقط مشروع كامل كان يوشك أن يحرف مسار شعب بأكمله.

لا يمكن النظر إلى الجماهير على أنها نقيض الفرد، أو الفرد على أنه عكس الجماهير، إذا كان الجميع يسير في ذات السياق ونحو ذات الأهداف.
لكن عندما تتباين الرؤى، وتختلط المعايير، وتكثر السهام من كل حدب وصوب  على الفرد أن يحتكم لعقله، لا لينقذ نفسه، بل ليحمي الجماهير.

إن ما حدث مع أهالي قطاع غزة، لا يبتعد كثيرًا عن هذا كله.
هو يشبه تمامًا صهر الحديد تحت النار. سنوات من الحصار، القصف، منع الإعمار، البطالة، قطع الكهرباء، المنع من السفر... ووسط كل ذلك، ظلّ اللحم الحي واقفًا، يتحدى ويقاوم، ويعيش.

وكما قال غسان كنفاني: "الكلمات أحيانًا تعويض صفيق"، فإنها اليوم ليست فقط مهزلة، بل خجل أمام صمود الأهالي وتضحياتهم.

لو تركنا أهل غزة  من نساء ورجال، شباب وشابات، أطفال، مثقفين، جرحى، أيتام، أرامل، قادة، كوادر، مؤسسات، أحزاب ليحدثونا بأنفسهم عن رواياتهم، عن الانكسارات، عن الجوع، العطش، البرد... لسألناهم:
متى شعرتم بالهزيمة؟ ومتى شعرتم بالنصر؟
ماذا تقولون في هذا؟ وماذا تقولون في ذاك؟

نحن من يجب أن ينصت ويتعلم.
عن السياق المجتمعي، الفكري، الإنساني، السياسي، في تجربة تُعرَّف بمصطلح علمي وإنساني شامل هو: الإبادة.
هم من خاض هذه التجربة بكل تفاعلاتها، وهم من يجب أن يخبرونا:
كيف لهذا اللحم الحي أن يبقى واقفًا رغم الإبادة؟

تعالوا جميعًا نضع أقلامنا.
لا نريد أن نُصدِّع رؤوسهم، فمن المؤكد أنهم يبصقون على جميع الآراء والأفكار.

لا نريد أن نُزعج يتيمًا من غزة بموقف قد لا يرقى لتضحية أبيه.
ولا نريد أن نجرح إنسانًا غاضبًا قد يلعن كل الأفكار وكل من قالها، لأنه ببساطة لم يبقَ لأهله أثر في السجل المدني.

هذا هو رد الفعل الإنساني الطبيعي. وهذا هو ما لا يفهمه البعض.

غزة ضربت الأمة والعالم على عصبهم المكشوف.
لكن لم تتحرك "القطاعات الجماهيرية".
أما "الأبطال السياسيون" الذين كثيرًا ما يتحدثون عن الشعوب والحرية، فقد وقفوا مذهولين، مرتعدين، خائفين، خلال كامل فترة الإبادة.

ونحن نعلم  جميعًا  من وقف في لبنان والعراق واليمن، ونعلم من وقف مرتعِدًا أمام الوحش الاستعماري بكل ما لديه من جيوش وتحالفات.

وغزة، وحدها، دفعت الثمن.
فلنستمع إلى غزة: روحها، جسدها، لحمها، شوارعها، أطفالها، شهداؤها، جرحاها، نساؤها، رجالها، مثقفوها، خيامها، ملاجئها، مساجدها، بيوتها المنهارة...

كل شبر فيها يحمل أثر السيوف والخناجر.

ونسمع هذا الجسد وهو يهمس في أذن العالم:

"لا نامت أعين الجبناء." .. 


الكاتب : 
محمد أبو عيد