هل تم كيّ وعينا؟ وهل تغيرت معتقداتنا حول الحقوق الوطنية؟
د. إبراهيم نعيرات
د. إبراهيم نعيرات
في المساحة الفاصلة بين الذاكرة والواقع، وبين ما حدث وما يُراد له أن يحدث، يتشكّل الوعي الفلسطيني والعربي كما لو أنه صفحة تُعاد كتابتها باستمرار تحت ضغط الأحداث وتعقيدات السياسة وتحوّلات المنطقة. وبين سطور هذه الصفحة الممتدة على مدى قرن من الزمن، ينهض سؤال ثقيل، يزداد حضوره كلما ازداد العالم ضجيجًا: هل جرى كيّ وعينا فعلاً؟ هل أصبحنا نرى الحقوق الفلسطينية بعيون غير تلك التي حملت الوجدان العربي لعقود طويلة؟
منذ النكبة وحتى اليوم، لم تكن فلسطين قضية قابلة للتأجيل أو المساومة في الوعي العربي العام. كانت – وما زالت – نقطة الثبات الوحيدة في جغرافيا تتغير باستمرار. لكن السنوات الأخيرة حملت معها موجات واسعة من التحوّل؛ موجات لم تقتصر على السياسة وحدها، بل تسللت إلى الخطاب، وإلى صياغة الأخبار، وإلى اللغة التي تُروى بها فلسطين، بل حتى إلى المساحة التي تحجزها في الوعي الجمعي للشارع العربي.
لقد أصبح المتلقي اليوم، سواء داخل فلسطين أو خارجها، يعيش في عالم تتنافس فيه الروايات، وتتشابك فيه المصالح، ويجد نفسه أمام سيل من المعلومات التي تُقدَّم أحيانًا كما لو أنها حقائق نهائية. ومع كل هذا الزخم، تتغير الأولويات شيئًا فشيئًا. تتقدم ملفات جديدة، وتتراجع أخرى، ويصبح من الصعب أن يبقى صوت القضية حاضرًا وسط هذا الركام من الأحداث. لكن التراجع في الحضور لا يعني تراجعًا في الحق، ولا في جوهر القضية.
في محطات كثيرة، بدا وكأن ثمة محاولة لإعادة تشكيل زاوية النظر؛ لم يعد الحديث عن فلسطين دائمًا بتلك اللغة الحاسمة، ولا بالسياق الثابت الذي لازَم الإعلام العربي لعقود. حتى المفردات تغيّرت: حلّ «الاستقرار» مكان «التحرير»، و«التطبيع» مكان «المقاومة»، و«الشراكات الإقليمية» مكان «الثوابت». هذا التحول في اللغة ليس تفصيلاً عابرًا؛ إنه انعكاس لتحول أعمق، قد يكون مقصودًا أو ناتجًا عن طبيعة العصر، لكنه يترك أثره على الوعي العربي دون أن نشعر.
الجيل الجديد، الذي يفتح عينيه على عالم تتصارع فيه الأخبار كما تتصارع القوى، يعيش وعيًا مختلفًا بلا شك. ليس لأنه أقل ارتباطًا بفلسطين، بل لأنه لم يعايش المراحل الأولى للصراع، ولم يسمع أصوات اللاجئين الأوائل، ولم يرَ الخرائط قبل أن تمحوها يد الاستيطان. إن هذا الجيل يرى العالم بسرعة الشاشة، ويرى السياسة بمنطق الممكن والمباشر، لا بمنطق التاريخ الممتد. ومع ذلك، فإن انشغاله بقضايا أخرى، أو تشتت اهتمامه بين مئات الملفات، لا يعني أن فلسطين غابت عن وعيه؛ بل يعني أن الخطاب الموجه إليه لم يعد يضعها في مقدمة الصورة كما كان يحدث سابقًا.
ومع كل ذلك، تبقى الحقيقة راسخة: الحقوق الفلسطينية ليست مفهومًا يمكن تشكيله وفق مزاج السياسات أو إيقاع الإعلام. إنها حقوق متجذرة في الأرض، والهوية، والذاكرة، وأجيال الشهداء الذين لم يكن موتهم مجرد حدث عابر في سجلّ الزمن. لذلك لا يمكن لأي تحول إعلامي أو سياسي أن يمحو ما كُتب بالدم، ولا أن يعيد تشكيل ما رسخه الوجدان لعقود.
إن أخطر ما يمكن أن يحدث للقضية الفلسطينية ليس التهديد الخارجي، بل التآكل الداخلي في الوعي، حين تصبح الحقائق القاطعة قابلة للجدل، وحين يصبح الموقف الوطني مسألة رأي لا مسألة بديهة. وما نراه أحيانًا من محاولات لإعادة صياغة الرواية، أو لتمرير خطاب جديد يخفّف من مركزية القضية، هو شكل من أشكال الضغط الناعم على العقل الجمعي، لكنه يظل عاجزًا عن تغيير الحقيقة مهما طال الزمن.
ففلسطين ليست قضية موسمية، ولا ملفًا سياسيًا يعلو ويهبط في سلم الأولويات. فلسطين معيار ثابت لكرامة المنطقة كلها، وصوتها الداخلي الذي لا ينبغي أن يخفت مهما تبدلت الظروف.
لذلك، يبقى السؤال الحقيقي الذي يجب على الوعي العربي اليوم أن يواجهه بلا تردد: هل تغيّر موقفنا لأن الحقيقة تغيّرت؟ أم لأن أحدًا يحاول أن يجعل الحقيقة تبدو أقل وضوحًا؟
في النهاية، قد تتغير لغة الإعلام، وقد تتوسع حسابات السياسة، وقد تفرض الظروف لحظات من الصمت أو الانشغال، لكن الحق الفلسطيني – الأرض والإنسان والذاكرة – يبقى حجر الأساس الذي لا يسقط. والوعي، مهما تعرض للكيّ، يبقى قادرًا على الشفاء حين تتجلى الحقيقة مرة أخرى… والحقيقة هنا لا تحتاج إلى كثير تفسير: فلسطين كانت، وستبقى، البوصلة التي لا تنحرف.





