السلطة المتجددة والاصلاحات..، كيف تكون استجابة وطنية في ظلّ المطالبات الخارجية؟
تقدير موقف استراتيجي
السلطة المتجددة والاصلاحات..، كيف تكون استجابة وطنية في ظلّ المطالبات الخارجية؟
تقدير موقف استراتيجي
إعداد/ الدكتور حسين سليمان رداد
مدير وحدة الدراسات الاستراتيجية والمستقبلية
الملخص
تواجه السلطة الوطنية الفلسطينية لحظة مفصلية تتقاطع فيها الضغوط الدولية مع الاستحقاقات الوطنية الداخلية، فبين متطلبات “التجديد والإصلاح” التي تفرضها القوى الغربية والإقليمية، وبين الحاجة إلى استعادة الثقة الشعبية وبناء نظام سياسي أكثر شرعية وتمثيلاً، يقف المشروع الوطني أمام اختبار حاسم، هذا التقدير يحلل مفهوم "السلطة المتجددة" بوصفه استجابة وطنية واعية، توازن بين ضرورات التكيّف مع البيئة الخارجية والحفاظ على الثوابت السياسية، من خلال إصلاحات مؤسسية، سياسية، وأمنية واقتصادية وثقافية تراعي الخصوصية الفلسطينية وتستند إلى المصلحة الوطنية العليا.
السلطة المتجددة والاصلاحات..، كيف تكون استجابة وطنية في ظلّ المطالبات الخارجية؟
مقدمة
لم تعد دعوات “الإصلاح والتجديد” داخل السلطة الوطنية الفلسطينية خيارًا داخليًا فحسب، بل تحولت إلى شرط سياسي دولي مرتبط بمسار إعادة الإعمار، واستئناف المفاوضات، وإدارة اليوم التالي في غزة، حيث تستثمر الأطراف الخارجية هذا الظرف لفرض نموذج “سلطة جديدة هي اقرب للوظيفية منزوعة الزخم السياسي، تسهم في ضبط الأمن دون أن تمتلك القدرة على رسم القرار الوطني، تكرس فيها حالة نقص السيادة المزمنة، في المقابل، يرى جزء كبير ممن تحملوا العبئ الوطني على امتداد الثورة الفلسطينية أن الإصلاح الحقيقي يجب أن يستجيب بدرجة اساسية الى مراجعة داخلية شاملة تعيد تعريف السلطة كأداة لخدمة المشروع الوطني، لا كبديل عنه، وهنا تصبح فكرة السلطة المتجددة كمفهوم مقاوم للوصاية، لكنه منفتح على التغيير المسؤول، يبقى السؤال الملح والاشكالي كيف توازن القيادة الفلسطينية بين الاستجابة للاستحقاقات في البيئة الداخلية المزدحمة بنقاط الضعف لردم الفجوة وبين المتطلبات والضغوط الخارجية في البيئة الخارجية والتي خلقت تحديات ومهددات خطيرة بحيث لا تفقد اصولها الاستراتيجية لردم الفجوة الاستراتيجية والتي تقود الى استعادة كافة السياسية وعلى راسها حق تقرير المصير في اقامة دولته على ترابه الوطني.
اولا- البيئة الخارجية (اقليميا ودوليا ) و الضغوط الخارجية
بالرغم من ان السابع من اكتوبر وما تلاه قد شكل تحديا خطيرا للقضية الفلسطينية، الا انها في المقابل يمكن تحويلها الى فرصة تخلقت في ظل تحولات اقليمية ودولية عميقة اجبر العالم على اعادة الاعتبار للقضية الفلسطينية، وحاولت عكس اتجاه الامور الى حالة من حالات ادارة صراع بدل حله ، حيث توزعت هذه المطالب على شكل ضغوط بين أربعة مستويات متشابكة:
1. الضغوط الأمريكية–الأوروبية:
تسعى الولايات المتحدة والاتحاد الاوروبي إلى صياغة “سلطة جديدة” تتبنى نهجًا تكنوقراطيًا–أمنيًا، يفصل بين المقاومة المسلحة والسياسة، ويهيئ بيئة الحرب دون صدام مع إسرائيل، وتربط المساعدات والإعمار بإصلاحات إدارية وأمنية، أبرزها مكافحة مظاهر سوء الادارة وتوحيد ومهننة الأجهزة الامنية اضافة الى ترشيد الجانب الاقتصادي والقيمي والثقافي من خلال تحسين المناهج وتليين الخطاب الديني ليلامس الجانب الدعوي اكثر من الجانب السياسي.
2. الضغوط الإسرائيلية:
تنظر إسرائيل إلى تجديد السلطة كوسيلة لتخفيف الاحتكاك المباشر مع الفلسطينيين وضبط الضفة الغربية، لكنها ترفض أي سلطة تملك مظاهر سيادة أو تطمح لتمثيل سياسي حقيقي، وتتعامل مع “الإصلاح” باعتباره وظيفة أمنية، مستغلة الواقع الامني المعقد في الضفة الغربية واختلال موازين القوى المحلية لصالح اسرائيل ، فاسرائيل تريد من خلال تبشيرها بالاصلاحات لتكون بمثابة شروط هزيمة واعلان استسلام للمشروع الصهيوني.
3. الضغوط العربية:
ان استدعاء التاريخ يثبت ان معظم الدول العربية لم يرق لها ان يكون لفلسطين قرارا مستقلا، وما زالت بعض تلك الدول تمارس هذا الدور عبر السعي الحثيث للوصايا على الشعب الفلسطيني من خلال ربط موقفه ودعمها بمقدار توافق مصالحها مع القرار الفلسطيني ، فتتباين مواقف بين دول ترى في السلطة شريكًا ضروريًا لاستقرار الإقليم كالأردن ومصر وأخرى تربط الدعم بمدى الانخراط في “السلام الإقليمي” كالامارات، واخرى تحاول نزع الشرعية عن السلطة الفلسطينية ان استطاعت كقطر، من جانب اخر اثبت بعض الدول كالمملكة العربية السعودية انها لسان الميزان والورقة الرابحة في معادلة الصراع والمصالح والتي تقف سدا وسندا للرؤية الفلسطينية الرسمية.
ثانيا- البيئة الداخلية ( الفلسطينية ) الاستجابة الضاغطة
لا يكفي النظر الى ان التحولات المحلية والاقليمية والدولية عقب السابع من اكتوبر بين الفرصة والتهديد بمعزل عن نقاط القوة في البيئة الفلسطينية المحلية والتي تتراوح بين وجود قاعدة شعبية للإصلاح ، اضافة الى كل من منظومة مؤسساتية قائمة يمكن تطويرها وخبرات محلية في الرقمنة والإدارة في مقابل نقاط الضعف من حيث أزمة شرعية بسبب الانقسام وتآكل الثقة في امكانية التحرر بنفس الادوات القديمة في ظل الهياكل نفسها اضافة الى تبعية مالية لتمويل خارجي وتحكم اسرائيلي في واردات السلطة الفلسطينية المالية وغيرها و ازدواجية صلاحيات بين منظمة التحرير والسلطة، أجهزة أمنية متعددة تعمل في بيئة معقدة تحد من قدراتها بشكل كبير الهيمنة الاسرائيلية ، ناهيك عن مخاطر فقدان الهوية الوطنية لدى جزء من كبير من جيل المستقبل نتيجة ضغوط خارجية ثقافية/تربوية، خاصة في ظل حالات كي الوعي المتسلل عبر تطبيقات ووسائل التواصل الاجتماعي.
السيناريوهات ( المتوقع probable،المحتمل prospectable ، المفضل preferable)
السيناريو الاول- المفضل preferable (السلطة المتجددة ذات السيادة )
إصلاحات داخلية سريعة (انتخابات، شفافية مالية، إصلاح أمني) تُدار بقيادة وطنية متوافق عليها، مع شراكات خارجية مشروطة بضوابط تحترم السيادة الثقافية والسياسية، الامر الذي ينعكس على تعزيز شرعية ومشروعية السلطة وتحسن ثقة الجمهور، وتوسيع قاعدة الدعم الدولي برؤية وطنية.
السيناريو الثاني- المحتمل prospectable ( الاستجابة المشروطة ): تنفيذ جزء من الإصلاحات الاقتصادية والإدارية، مع تقديم بعض الاصلاحات في المجال التربوي والديني نتيجة حوافز تمويلية، مما قد يؤدي الى تحسينات إدارية محدودة، لكنه قد يخلق فجوات في الدعم الشعبي ويثير اتهامات بالتقاطع مع أجندات خارجية.
السيناريو الثالث- المتوقع probable ( الاسوأ ) ( الإملاء الخارجي والتقليص الوطني ):
قبول شروط خارجية تقيد الرموز الوطنية في المناهج وتضع رقابة على الخطاب الديني، مع انفصال بين ملف الإصلاح الإداري والبعد الوطني للمقاومة بمعزل عن المطالب الداخلية ، الامر الذي يمكن ان يسبب أزمة شرعية متزايدة، توتر اجتماعي، احتمالية تصعيد مقاوم شعبي يقوّض الاستقرار.
لتجاوز السيناريو الاسوأ وتحويل التهديد في البيئة الخارجية الناتج عن ممارسة الضغوط الخارجية الى فرصة وردم نقاط الضعف في البيئة المحلية الفلسطيني وتعظيم فرص تحقيق السيناريو الافضل، لا بد من مقاربة توازن بين الاستجابة للاستحقاقات الوطنية والمطالب الخارجية تحتاج السلطة إلى مقاربة مزدوجة تجمع بين التجديد البنيوي والتحصين الوطني، وفق مجموعة مسارات رئيسية اهمها:
1. المسار السياسي:
- إعادة بناء الشرعية عبر انتخابات عامة تدريجية (مجالس محلية، تشريعية، ورئاسية)، وهو ما ادركته القيادة الفلسطينية عبر الدعوة الى اجراء انتخابات شاملة بعد انتهاء الحرب في غزة ب عام.
- توسيع قاعدة القرار الوطني من خلال إصلاح منظمة التحرير وإدماج القوى السياسية الفاعلة.
- اعتماد استراتيجية دبلوماسية هجينة تجمع بين العمل القانوني الدولي والمقاومة الشعبية المنظمة.
2. المسار المؤسسي والإداري:
- تحديث البنية البيروقراطية عبر ترشيد الوظيفة الإدارية.
- إنشاء هيئة رقابة مستقلة ذات صلاحيات قضائية على المال العام والتعيينات.
- بناء إدارة مدنية مهنية في غزة والضفة بمرجعية سياسية لمنظمة التحرير الفلسطينية، ترتكز على الكفاءة .
3. المسار الأمني:
- إعادة تعريف العقيدة الأمنية على أساس حماية المواطن في ظل تحديات الاحتلال والاستيطان والانقسام، على قاعدة سلطة واحدة وسلاح واحد وقانون واحد وجيش واحد.
- دمج الأجهزة ضمن هيكل موحد، يخضع لمساءلة مدنية وتشريعية.
- تطوير جهاز شرطة مدنية مهنية يراعي سيادة القانون.
4. المسار الاقتصادي والاجتماعي:
- تعزيز الاعتماد الذاتي من خلال تحفيز الاقتصاد المتحرر من التبعية للاقتصاد الإسرائيلي.
- دعم المشروعات الصغيرة والمتوسطة بوصفها رافعة للاستقرار الاجتماعي، وتقاسم العبئ الوطني بين القطاعات الثلاث ( القطاع الرسمي والخاص والمجتمع المدني ).
- إنشاء صندوق وطني للعدالة الاجتماعية يمول من الضرائب المحلية والمساهمات العربية.
5. في المسار الدعوي والتربوي
- تطوير المناهج بما يتوائم مع المعايير الدولية ( اليونسكو )، على ان يتم مناقشة المناهج الاسرائيلية والمطالبة بتغيير تلك المناهج التي تحض على الكراهية.
- ضبط الخطاب الديني خاصة عبر خطب الجمعة لتحقق هدفي الوحدة والتوحيد، بحيث تكون المساجد للجميع، اضافة الى مراجعة قانون المطبوعات والنشر والمحتوى المقدم من وسائل الاعلام المسموعة والمقروءة المرئية.
الخاتمة
تُظهر التحولات التي أعقبت السابع من أكتوبر أن مستقبل السلطة الوطنية الفلسطينية لم يعد رهين معادلات الإدارة اليومية أو التمويل الخارجي، بل بات مرتبطًا بقدرتها على إعادة تعريف ذاتها كسلطة وطنية سيادية لا وظيفية، فالضغوط الدولية التي تتستر وراء شعارات الإصلاح والتجديد ليست سوى محاولة لإعادة إنتاج سلطة منزوعة الإرادة السياسية، تُستخدم أداةً لضبط الأمن وادارة الصراع لا حله؛ لكن في المقابل، تتيح اللحظة التاريخية فرصة حقيقية لتأسيس سلطة متجددة ذات مضمون وطني واعي، تجمع بين الكفاءة الإدارية والاستقلال السياسي، وتستعيد ثقة المواطن من خلال شرعية منبثقة من الداخل ومتفاعلة مع التحولات الكبرى دوليا واقليميا، فمعركة الإصلاح ليست معركة شكلية على القوانين والهياكل، بل معركة على اتجاه المشروع الوطني ذاته؛ فهل المطلوب ان تكون السلطة المتجددة أداة لإدارة الاحتلال أم تتحول إلى قاعدة لبناء الدولة؟ يتوقف ذلك على مدى استعداد القيادة الفلسطينية لتحويل الإصلاح من استجابة إملائية إلى مشروع سيادي يوازن بين الواقعية السياسية والهوية الوطنية، ويجعل من المطالبة بسلطة متجددة نواة لنظام سياسي أكثر تمثيلاً وصلابة في مواجهة الضغوط الخارجية، مقبولا داخليا وخارجيا.
التوصيات
بلورة رؤية وطنية موحدة للإصلاح تنبثق من حوار داخلي واسع يشارك فيه الكل الفلسطينية والمجتمع المدني والنقابات والقطاع الخاص، تُعلن رسميًا كوثيقة سيادية ملزمة.
صياغة دستور فلسطيني وتجديد الشرعية عبر صناديق الاقتراع بعد التوافق على ادوات التحرر.
ربط الإصلاح بالتحرر الوطني عبر صياغة ميثاق وطني جديد يحدّد أن وظيفة السلطة كذراع تنفيذي ناقل الشعب الفلسطيني من الاحتلال الى الاستقلال.
التحصين السياسي للقرار الوطني من خلال تنويع الشراكات الدولية وتفعيل الدبلوماسية المتعددة الأطراف ، وتوسيع خارطة التحالفات الواضحة مع بعض الدول الاقليمية كالمملكة العربية السعودية اضافة الى الاردن ومصر.
اعتماد مبدأ التمويل المقبول وطنياً بحيث تُقبل المساعدات فقط في إطار لا يتعارض مع الهوية الثقافية والسياسية الفلسطينية.
تفعيل المساءلة والمكاشفة العامة عبر نشر تقارير الأداء المالي والإداري دورياً، وإشراك الجمهور في الرقابة على تنفيذ برامج الإصلاح.
إطلاق برنامج أمني وطني يعيد صياغة العقيدة الأمنية على أساس حماية الإنسان والأرض في ظل تحديات استمرار الاحتلال والانقسام.
إصلاح تربوي ودعوي وطني الهوية يُوازن بين الانفتاح على المعايير الدولية والحفاظ على الرواية الفلسطينية والذاكرة التاريخية.
تحويل الإصلاح من لحظة سياسية إلى مسار مستدام عبر إنشاء المجلس الأعلى للإصلاح والتحول الوطني بتمثيل وطني شامل يراقب التنفيذ .
المراجع
خليل شاهين،السلطة الفلسطينية بين الوظيفية والسيادة: جدلية الإصلاح الوطني والوصاية الخارجية، المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية (مدار)، رام الله، 2024، الموقع الالكتروني : https://2u.pw/tXHi13
محمد عايش،الموقف العربي من إصلاح السلطة الفلسطينية: بين الاستقرار والوصاية. مركز الجزيرة للدراسات، الدوحة، 2024.
الموقع الالكتروني لمركز الناطور للدراسات والابحاث: https://2u.pw/e7Kv15
مركز دراسات الوحدة العربية، الإصلاح السياسي في الوطن العربي بين الإملاء الخارجي والاستجابة الداخلية، بيروت، 2018 ، الموقع الالكتروني: https://2u.pw/TgOYAAi
INSS (Institute for National Security Studies) Scenarios for Palestinian Governance Post-Conflict Tel Aviv, 2024 الموقع الالكتروني لمعهد دراسات الامن القومي: https://2u.pw/W5wUAM





