الهوية العربية بين مطرقة العنصرية الصهيونية وسندان الاستشراق
الكاتب: د. منى أبو حمدية
الكاتب: د. منى أبو حمدية
في زمنٍ تعلو فيه أصوات الكراهية وتُحاك فيه الخرافات السياسية على حساب التاريخ، تخرج تصريحات رموز اليمين الصهيوني المتطرف كالسكاكين في وجه الكرامة العربية، محاولةً بائسة لتشويه صورة أمةٍ كانت وما زالت أصل الحضارة ومهد الإنسانية. ففي تصريحٍ جديد، يسخر سموتريتش من الشعب السعودي قائلًا: "واصلوا ركوب الجمال في الصحراء إذا أردتم التطبيع مع إسرائيل"، متجاهلًا أن تلك الصحراء التي يسخر منها كانت مهد النور الذي أضاء العالم، ومنبع العلوم التي أسست للفكر الإنساني الحديث.
ليست هذه الكلمات العابرة مجرد زلة لسانٍ سياسي، بل هي تجلٍّ واضحٌ لعنصريةٍ متأصلة في العقل الصهيوني المتطرف، تسعى لتقزيم الإنسان العربي، وتشويه حضارته، وطمس مساهماته الإنسانية. لكنها ايضاً، وكما يقول المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد، استمرارٌ لقرونٍ من الخطاب الاستشراقي الذي شيطن الشرق وصوّر العربي على أنه "الآخر المتخلف" في مقابل الغرب "المتحضر".
الهوية الثقافية العربية في وجه العنصرية – أمة تصنع التاريخ لا تُختزل في نكتة
العرب ليسوا أبناء الصحراء فحسب، بل أبناء الحضارة التي علّمت العالم معنى الفكر والمعرفة. من أرض الرافدين انبثق أول قانون، ومن وادي النيل خرج أول علم، ومن الجزيرة العربية بزغ نور الرسالة الذي غيّر وجه الإنسانية.
حين كانت أوروبا تتلمس طريقها في عصور الظلام، كانت بغداد ودمشق وقرطبة والقاهرة تضيء العالم بمصابيح العلم والشعر والفلسفة. كانت القوافل العربية لا تحمل التمر والبخور فقط، بل تحمل الحرف، والفكر، والمعرفة إلى العالم كله.
ركوب الجمال الذي يسخرون منه اليوم، هو ذاته الذي حمل الكتب والمخطوطات بين الحواضر، وجعل من الصحراء طريقاً للحضارة لا للعزلة. فالصحراء التي علمت الإنسان الصبر والبصيرة لم تكن فراغاً ، بل مدرسة في الكرامة والنجاة واليقين.
خطاب العنصرية امتدادٌ للاستشراق — قراءة في فكر إدوارد سعيد
تُظهر تصريحات سموتريتش اليوم الوجه الحديث للخطاب نفسه الذي حذّر منه المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد في كتابه الشهير الاستشراق (Orientalism)، حيث قدّم واحدة من أهم النظريات التي فضحت الخطاب الغربي الاستعماري في تصويره للعرب والمسلمين، مبيناً كيف استخدم الغرب الصورة النمطية لتبرير الهيمنة السياسية والثقافية.
إدراج فكر سعيد هنا يُثري التحليل ويُبرهن أن السخرية التي أطلقها سموتريتش ليست حدثا معزولا، بل امتداداً لخطاب استشراقي قديم هدفه السيطرة الفكرية والثقافية على الشرق، من خلال صناعة صورة ذهنية للعربي بوصفه كائناً بدائياً، عاجزاً عن الحداثة، يحتاج دائما إلى وصاية الآخر عليه.
ذلك الخطاب الذي فضحه سعيد لم يكن مجرد موقف ثقافي، بل مشروع هيمنة متكامل يسعى إلى تشويه الشرق ليبرّر إخضاعه. واليوم، حين يسخر المتطرفون الصهاينة من العرب، فإنهم لا يفعلون سوى تكرار النغمة القديمة نفسها: تفوق الذات الغربية/الصهيونية، في مقابل دونية الآخر العربي.
غير أن إدوارد سعيد، بصوته الفلسفي والإنساني، هدم هذه الثنائية الزائفة، وأعاد الاعتبار للإنسان العربي كفاعلٍ في التاريخ لا كموضوعٍ في رواية الآخر.
فلسطين… مرآة الصمود العربي
الهوية الفلسطينية ليست حالة محلية، بل ذاكرة الأمة كلها. في كل حجرٍ من القدس، وفي كل زيتونةٍ في غزة، تنبض روح الأمة وتتجسد كرامتها.
الفلسطيني الذي يزرع أرضه رغم الجدار هو صورة الإنسان العربي في أصفى تجلياته: إنسانٌ يواجه العالم بالإرادة، ويكتب وجوده بدمه و صموده الأسطوري.
إن الهجوم على الفلسطيني هو هجوم على الوعي العربي، ومحاولة لإعادة إنتاج الاستشراق بثوبٍ جديد — شرقٌ "ينبغي تهذيبه" وقضية "ينبغي إنهاؤها". لكن الفلسطيني لا ينهزم، لأن خلفه أمة تعرف أن فقدان فلسطين يعني فقدان معنى العروبة ذاته.
الموقف السعودي والعربي… درع الوفاء التاريخي
منذ البدايات الأولى للنكبة وحتى اليوم، لم تغب المملكة العربية السعودية عن المشهد الفلسطيني، لا سياسياً ولا ميدانياً ولا إنسانيا.
بمواقفها الجادة كانت دائما صوت الحكمة والثبات في المحافل الدولية، ودعمها المادي والسياسي للسلطة الفلسطينية لم يكن تفضّلًا بل التزاماً قوميا وإنسانياً.
المملكة، بتاريخها ومكانتها الروحية والسياسية، حملت القضية الفلسطينية في ضميرها كقضية مركزية لا تُساوَم عليها، وظلت تُذكّر العالم أن فلسطين ليست بندا في جدول السياسة، بل وجدان الأمة ومحرابها الأول.
كما أنّ مواقف الدول العربية، من الخليج إلى المغرب العربي، عكست الوعي الجماعي بأهمية حماية فلسطين من محاولات التطبيع المفرغ من الأخلاق. هذا الموقف السعودي والعربي المشترك هو في جوهره دفاع عن الذات، عن الهوية، وعن التاريخ، لأن سقوط فلسطين يعني سقوط آخر حصون الوعي العربي.
العرب أصل الحكاية لا هامشها
ستبقى الثقافة العربية، والهوية الفلسطينية، شاهدتين على أن من أراد للعرب أن يكونوا "ظلّ التاريخ" نسي أنهم هم الذين كتبوا التاريخ.
ستبقى الصحراء التي يسخرون منها مهد الأنبياء والشعراء والفلاسفة، وستظل فلسطين قلب الأمة الذي لا يتوقف عن النبض.
من بين رمال الجزيرة خرجت الحروف الأولى، ومن بين نخيلها قامت الحضارات، ومن بين أبنائها وُلدت رسالات السماء.
فمن يسخر من العربي اليوم، إنما يسخر من التاريخ نفسه، ومن الإنسان الذي حمل مشعل النور حين كان الآخر يتلمّس طريقه في الظلام.
كما قال إدوارد سعيد: إنّ الشرق لم يكن يوماً صدى للغرب، بل صوتاً مستقلًا يعيد صياغة معنى الإنسانية.
ولذلك، ستظل كلمات المتطرفين تتساقط أمام ذاكرة أمةٍ لا تموت، لأن من يملك الوعي لا يُهزم، ومن يملك الجذور لا يُقتلع.
الكاتبة: أكاديمية وباحثة





