أهلاً بكم في معرض الجثث في غزة

عيسى قراقع

أكتوبر 26, 2025 - 08:56
أهلاً بكم في معرض الجثث في غزة

أعلن الدكتور سامح حمد، عضو لجنة إدارة الجثامين ومختص الأدلة الجنائية في قطاع غزة، افتتاح معرض صور جثامين الشهداء الفلسطينيين الذين أعادتهم سلطات الاحتلال الاسرائيلي بعد توقيع اتفاق وقف الحرب على غزة في العاشر من اكتوبر 2025، وذلك في مجمع ناصر الطبي بمدينة خانيونس، حيث تعرض صور الجثامين على شاشة كبيرة أمام ذوي المفقودين للتعرف عليهم، وتسليمهم جثامين احبائهم واكرامهم بالدفن.

أكثر من 150 جثة وصلت مجمدة في ثلاجات بدرجة180 درجة مئوية تحت الصفر، كانت محتجزة في معسكر سدي تيمان الدموي في جنوب النقب، والذي هو منشأة عسكرية سرية يحتجز فيه آلاف الاسرى الفلسطينيين في ظروف جهنمية، وكذلك منشأة لتخزين جثث الشهداء الفلسطينيين الذين قتلوا في غزة أو قتلوا داخل السجن.

أهلاً بكم في معرض الجثث في غزة، جثث سلمت في أكياس بلاستيكية وبشكل مهين، بلا أسماء وإنما أرقام، جثث بلا هوية، لا يوجد بيانات شخصية عن هذه الجثث مما يصعب التعرف عليها، لا تقارير طبية عن أسباب الوفاة، جثث كانت مختفية طوال عامين من الحرب، وفي هذه القاعة المخنوقة بالدم والبكاء، احتشد ذووا الشهداء بقلوب متلهفة لمعرفة مصير أبنائهم.

أهلاً بكم في معرض الجثث، هنا في غزة على شاطئ البحر المتوسط، جثث مبهرة وتثير الصدمة، تعالوا شاهدوا معنا جثث سحقت تحت جنازير الدبابات الإسرائيلية، جثث أعدمت وهي مكبلة الأيدي و الأرجل ومعصوبة الأعين، جثث طعنت بأدوات حادة في الوجه والصدر والرقبة، جثث سلخ جلدها ولحمها وبقرت وسرقت أعضاء منها، جثث معلقة من رقبتها بحبال مشدودة، شنقت وخنقت، جثث أطلقت عليها النار من مسافة صفر، جثث مبتورة الأيدي و الأرجل والأصابع، جثث مرت في رحلة موت طويلة وشاقة، اختفت ملامحها ، اغتصبت و شوهت، مورس بحقها كل أنواع الجريمة الممنهجة، ذبحت في الظلام والصمت، تعالوا الى معرض الوحشية الصهيونية، إلى المسلخ في غزة، السحل والتعذيب والتقطيع، والتفنن في انتهاك حرمة الجسد البشري.

أهلًا بكم في غزة لا زوّارًا بل شهودًا على رائحة المكان عندما يعود موتانا إلى أرضهم في شمس الظهيرة، الذاهبون إلى غدهم وزهورهم وصلاتهم الاخيرة.

أهلًا بكم في معرض الجثث والغبار والحزن المتجمد في جنازات اعمارنا، قبل أن تبعثرها الصواريخ والطائرات المغيرة، هنا لا تُعرض لوحات، بل تُعرض الحقيقة، عاريةً كما وُلدت من رحم النار، هنا يمكن أن نصلي، ونتطلع إلى السماء لنجمع غيومنا البعيدة.

في قلب غزة، وعلى أرضٍ ما زالت تنزف، فُتح المعرض. ليس معرضًا للفن، بل للفقد، قاعة مكشوفة للريح والوجع والذكريات المسحوقة، جدرانها من صمت الأمهات، وأرضها من ترابٍ امتزج بالدم والدموع والانتظار.

عاد مئات الجثامين بعد اتفاق وقف النار، كما لو أن الحرب أرسلت بريدها المتأخر: أجسادًا منزوعة الارواح، محفورة بالضرب والتعذيب والتجويع والإذلال والاهانات، أرواح مورست عليها كل انواع الانتقام والشناعة، أرواح لم تجد من ينقذها، ولا من يطرق على ابواب السجون التى تحولت إلي قبور شيدت من وحش الحضارات، ومن الرفات، ومن الموت بعد الممات.

الناس لم يدخلوا المعرض بفضول الزوار، بل برعب الباحثين عن الحياة، كل وجهٍ هناك سؤال، وكل جثة مرآة. الأمهات يفتشن بين الأكياس السوداء عن أثرٍ لطفلٍ كان يضحك ذات صباح، الآباء يلمسون الأصابع الباردة كأنهم يطلبون من الموت أن يعتذر، وان يشتعل، رائحة الموت تختلط بنشيجٍ صامتٍ يملأ معرض يوم القيامة.

هذه جثة أبي: أعرفها من ندبة على الراس، وهذه جثة أخي: قلبي دليلي، قلبي يرتجف، وهذه جثة ابني:اعرفه من عينه المفتوحتبن على الدهشة، وهذا عمي: جرح قديم على خده الأيسر، وهذه الطفلة اختي: شعرها الخروبي الجميل كان زينة الحارة، ولكن لماذا دمروا الجثث كما دمروا غزة؟

 على هذه الجثث مورست طقوس التعذيب الرهيبة: اعدامات ميدانية، عربدات جنسية، كل أشكال الفسق والشذوذ، وكانت دولة اسرائيل مستمتعة وهي تعلن انتصارها على الجثث.

ليست هذه جثثًا فقط، بل شهادات حية على ما لا يُحتمل، على إبادة تقودها قوات هتلر المسلحة في السجون، نظام متعفن في معسكرات الاعتقال، انظروا الي الصور في المعرض، هناك وراء كل جثة تجدون ابن غافير وحكومته المجرمة، عصي ورصاص والات لطحن البشر، جلادون كأنهم أرادوا أن يتركوا توقيعهم على كل ضلع من أضلاع المعتقلين، أن تبقى آثار القيود واضحة، الصغعات والركل، ونهش الكلاب والأمراض القاتلة، وكأنهم أرادوا أن يمحو فلسطين من خريطة الجسد.

أهلاً بكم في معرض الجثث في غزة، كل جثة لها عائلة وأحلام وقصة وذكريات ووطن، ابحثوا عن بيوتهم وخطواتهم وكلامهم في غزة، ابحثوا عن قهوتهم الصباحية، وصلواتهم واشجارهم التي غرسوها في الرمل، ابحثوا عن حبيباتهم وقصائدهم ورسائلهم ومواعيدهم، اسالوا البحر أو الشمس، لا تتركوها مجهولة وتائهة.

في المعرض كانت الوجوه التي تعرفت على جثمان تبكي وتبتسم معًا، كأن العثور على جثةٍ هو عودةٌ من المنفى الأخير، كأن الوجع أصبح هويةً جديدةً للشعب الذي لم يُهزم، في هذا المعرض، لا تُعرض الجثث، بل تُعرض إنسانية العالم، تُعرض القيم التي سقطت تحت الركام، والضمائر التي تحجّرت في صمت المؤتمرات، وعلى هذه الجثث تتعرف على كل أنواع الاسلحة، من السكين الى الطلقة إلى المشرحة.

هنا في معرض الجثث في غزة،الفلسفة تفقد لغتها، والأدب يتلعثم أمام حجم الفجيعة، كل ما يمكن قوله إن الموتى في غزة لم يعودوا موتى، بل شهودًا على بقاء الحياة، كل جسدٍ منهم نصّ مفتوح على سؤال العدالة، وكل ثلاجةٍ كانت زنزانةً لكرامةٍ مؤجلة.

 واللافت أن خلف كل جثة تشاهد صورة دولة اسرائيل، صورة منحطة، عصابات من الغوغاء المتعطشة للدماء، وكان واضحا أن هذه الجثث ليست صامتة، أنها تشير إلى المجرمين والقتلة خلف الأسلاك الشائكة، فالجثة في غزة ليست مادة هامدة، بل مرآة سياسية وأخلاقية يطل منها التاريخ الأسود للاستعمار.

في معرض الجثث في غزة تقرأون لغة الإبادة التي تقول: أن الإنسان لا يموت مرتين الا حين يشوه جسده، فالموت في ذاته نهاية، اما تشويه الجثة فهو نفي الإنسان حتى بعد موته.

لقد ورث الاحتلال الاسرائيلي لغة الاستعمار القديم: نفس اليد التي قطعت ايدي الكونغوليين هي اليد التي قطعت أيدي الأسرى الفلسطينيين قبل إعدامهم، وهي نفس العقل الذي احتفظ برؤوس الجزائريين الثوار في المتاحف في باريس، وهي نفس المدافع البريطانية التي أطلقت القنابل على الثوار الهنود لتتناثر الأجساد، وهي نفس قذائف النابالم التي حرقت الأجساد في فيتنام، كأن الجسد الميت هو آخر مساحة يمكن احتلالها بعد تدمير غزة وتحويلها إلى خراب.

هنا هولوكوست غزة، جثث عادت من المحرقة، من الإخفاء القسري، من القتل المتعمد خارج نطاق القضاء، هنا جثث كانت في مختبرات الظلام في معسكرات الاحتلال، هناك كل جندي هو قاض وجلاد، لا قواعد ولا حدود ولا روادع، لا مراقبة ولا مساءلة ولا رحمة، وهناك تصهر الأجساد بأساليب أشد فتكا من قصف الطائرات.

إخفاء الجثث واحتجازها في مقابر الأرقام أو الثلاجات آخر وسيلة للسيطرة والهيمنة، محو البعد الرمزي للجسد، وحرمانه من الكرامة حتى في موته، ويعتقد المحتل أن الجسد المقاوم يمكن امتلاكه، تقطيعه، هرسه، دفنه بلا اسم، وشطبه من الوجود إذا لم يخضع.

 إن الجسد هو الذاكرة الأولى، وإن الإنسان لا يكتب تاريخه بالكلمات بل بالندوب والتضحية، وفي غزة، صار الجسد نصًا مفتوحًا في وجه الطمس والابادة، كل جثةٍ تعود من ثلاجات الغياب تحمل ذاكرة جماعية، تختزن في لحمها صرخة الحرية، وفي عظامها توقيع الأرض التي لم تغب عنها ينابيع التربة.

أهلاً بكم في معرض الجثث في غزة، في كل ام فلسطينية تنتظر خبر ابنها، هناك زمن مكسور بين الحياة والموت، زمن يشبه الأسطورة حين يتأخر الاموات عن العودة، ينقصهم وداع وقبر وضوء وزهرة وقراءة الفاتحة.

لقد تحوّل الجسد الفلسطيني إلى أرشيفٍ للوجود، لا تمحوه الحروب ولا الاحتجاز، حين يُعاد الجسد إلى أهله، كأن الذاكرة نفسها تُستعاد من المقبرة، لا يعود الميت وحيدًا، بل يصحب معه المعنى، يذكّرنا أن الإنسان ليس بما يُقال عنه، بل بما يبقى منه بعد الموت: رائحة التراب، بقايا القلب، والعين التي لم تغلق تمامًا، كأنها تراقب العالم العاجز عن استعادة جثة كي يستعيد إنسانيته.

إن أجساد الشهداء العائدين ليست نهاية، بل استمرارٌ آخر للوجود في شكله الأشد نقاءً، فحين يموت الفلسطيني، يولد سؤال العدالة من جديد، وحين يختفي الجسد في الظلام، ويذوب الثلج عن الجثامين، تشتعل الذاكرة أكثر.

عندما تبكي أم إسرائيلية على ابنها يفتح الإعلام شاشاته، وتشن حرب عالمية، وعندما تبكي أم فلسطينية على ابنها المفقود، يطفا الضوء ويقطع البث، هكذا تتجلى العنصرية القصوى: لا في القصف فقط، بل في الحق في الحزن، كأن الاستعمار الصهيوني لا يكتفي بالسيطرة على الأرض، وإنما امتلاك الحق في من يدفن ومن ينسى، وهو من يقرر معنى الإنسانية وحدودها.

إسرائيل تهدد بالعودة إلى الحرب إن لم تستلم من تبقى من جثامين عدد محدود من جنودها، بينما مازالت تحتجز مئات الجثامين الفلسطينية في أماكن سرية، وهي بالأساس دفنت الآلاف تحت الانقاض، وحين يصبح القتل مشروعا، والدفن ممنوعا، والإنسان يختزل الى رقم او مجرد شيء، فذلك يعني أن الاستعمار لم ينته بل يتجدد في الجسد الميت نفسه، وان الحرب لا تنتهي بوقف صوت الرصاص، بل بما تركته من ويلات وكوارث في النفوس والوجدان.

غزة تُعلّمنا أن الحرية لا تُكتب بالحبر، بل باللحم الحيّ، وأن الذاكرة لا تحفظها الكتب، بل الأجساد التي ترفض أن تُمحى، الموت هنا لم يكن غيابًا، بل نداء للبشرية كي تفيق.

يقول غابرييل غارسيا ماركيز في روايته أثنا عشر قصة تائهة: كانت الجثة تسير في الشوارع كما لو أنها لم تمت بعد، تبحث عن بيتها القديم، عن شيء تركته ولم يعد أحد يتذكره، في زمن الحرب الالم لا يموت.

في هذا المعرض، لم تُعرض الجثث للتسلية أو للفرجة، بل لتُذكرنا أننا رغم كل التاريخ المتوحش، لا نزال أحياء بضميرنا ووعينا.