سيّدةٌ من دمشق
سيّدةٌ من دمشق
المتوكل طه
***
راحَ..وظلّت.
كأنّي التقيتُ بها في المَنام؛
كانت على دَرجِ الجَمْرِ تصعدُ
حتى لتبلغَ آخرَ مَن مات بالسجنِ،
نادتْ،وما سمعوا صوتَها!
كان مثل الصدى في الزَّحام..
وما من جديدٍ،
سوى أنّ صورَتها أحرقتها المنافي
التي ضيَّعتْ أهلَها..
لم تكن تكرهُ الناسَ والعيدَ،
كانت تحبّ السويداءَ واللاذقيةَ والقدسَ،
كانت ترى في المساءِ النّدى
وهو يغسل أجنحةَ الخائفين،
وتهدي لهم أغنياتِ اليمام.
هي الصوتُ صوتُ دمشقَ،
ولا ظِلَّ إلا لمَن باعَها،
كي تكونَ له صورةٌ في الرّخام.
وراحَ..وظَلّتْ.
وها إنني أسمعُ الآن خطوتَها في الطريقِ..
هي الحُرَّةُ،الفَرَسُ الرّعدُ،
والبرقُ مُختَزِنٌ في الغَمام.
سلامٌ على روحها
بعد أنْ جفَّ دمعُ الملايينِ،
ظلّ على بردى عبقُ الياسمينِ،
ووجهٌ لسيّدةٍ هي اليوم كلُّ الشآم.
هي الأخضرُ المستمرُّ،البلادُ،الحكايا،
هي،الآن،أحلى الصبايا،
هي،الآن،ترمي عن الخيلِ سرجَ السبايا،
هي،الآن،أجملُ منّا جميعاً،
وأجملُ مما حَوَتْهُ المرايا،
..وقد أسْرَجَت زيتَها للظلام.
سلامٌ على وجهها الحلوِ،
سيّدةِ الشمسِ،
والنَّغمِ النّاعسِ المُستَبِدِّ..الذي
يُبرئ القلبَ،في مدخلِ الأغنياتِ،
ليذبَحَهُ في الخِتام.
كانت على شجرِ النورِ تصعدُ
حتى لتبلغَ آخرَ مَن عادَ في لَمَعاتِ النّواعيرِ،
نادتْ!وما سمعوا حكمةَ الماءِ!
زخَّ الرصاصُ،تصادى على جنباتِ البيوتِ،
ولا شيءَ غيرُ الرّدى والزّؤام.
وأنَّ الذي أشْعلَ البيتَ وزَّعَ أخوتَها
للقيودِ،وخلَّى لها جثتين تضيئان نجمَتَها
في الرّكام.
وكم شَرِقَ الطينُ من دمعةِ الأرجوانِ،
ولمّا تخثّرَ سَيلُ الشرايينِ،في كلّ مذبحةٍ،
لم يزل بعضُ عَندَمِهم في المقام.
لقد كان أصغرهُم أجملَ مَن حملتهُ العواصفِ،
في قبّةِ المُرسلينَ،
ويرفعُ للطيرِ أشجارَها كي تعودَ،
فَلاحتْ عليها الأكاليلُ والحبقُ المُشتهى والشبابيكُ،
كانَ الهتافُ يُخضِّبُ ثوبَ البلادِ،
وطافتْ عليها الزغاريدُ،
حتى الملايينُ ضاقت بها ساحةُ الشهداءِ..
وقد بحثوا،بعدما همد القلبُ،عمّا تساقطَ منها
فكانت بذوراً من الجَمْرِ،
أو جنّةً من طيوبٍ تَجَلَّتْ،
ورائحةٌ من خُزامى يديها تعبّئُ زيتونةَ المَرْجِ
والحائطَ المريميَّ،
وظلّ هناك الفَراشُ المُدمّى،يدفُّ
وَحامَ..
سلامٌ على قمرٍ
لم يزل بعضَ ما تركَ العاشقون،
وما رَنَّ من وَتَرٍ في الصدورِ،
وما قالهُ السِّرُّ للخطواتِ التي
وَزَّعَت كُحلَها في الحِزام.
سلامٌ على سربِ ملائكةٍ يفردون قوادِمَهم
في حليبِ السماءِ
على وردةِ الأرضِ،
مَن هَجَسَتْ بالحروفِ،
وخَلَّقَت الحُسْنَ في وردةِ الذّائبينَ،
وأعطَتْ لأفئدةِ العارفينَ الكلام.
سلامٌ على امرأةٍ أوقَدَت غُصنَها
كي يتمَّ النهارُ..
والنومُ قد يشبهُ الموتَ،
لكنه الصمتُ يطوي كثيراً من النّارِ،
شبَّتْ وفارتْ..فتشربُ منها النُسورُ
إلى أنْ تعالتْ وكانتْ
كما شاءَ لها الكونُ عُرْساً،
يزفُّ المدائنَ مُطهمةً للقِيام.
وتهجسُ؛سوف نعود إلى حمصَ،
سوف نغنّي على دربِ عودتِنا للأمام.
فيا قاتلَ القلبِ! "لا"
لا وراءَ،
ولا أيَّ نَهجٍ سوى الغيبِ..فارحَلْ
فإنّي أُعدُّ خطابَ الرجوعِ،
وأحلمُ أن تلتقيني حماةُ،
وأرفعُ في الساحِ بُرجَ الحَمام.
وكان لها قلبُها الطفلُ،
وقد قتلوا شعبَها،
أُغلقوا كوَّةَ الضُوءِ
لمّا تفزُّ الطريقُ،
والكونُ لا يبصرُ النَّقْعَ
أمسى على صمْتهِ في الدخانِ
ونامَ على ذُلِّهِ في الحطام.
سلامٌ على الحيِّ في السجنِ،صوتاً ولحناً،
سلامٌ على أبيضِ الرّوحِ يسعى
لموجِ الحياةِ..فيتبَعُه في الطريقِ الأنام.
سلامٌ عليها
إذا جَفَّ نَبعُ المدائنِ فاضَ لها شعبُها بالجموعِ،
وعادت لها حَلَبٌ بالنجومِ
تدلّ الرّعاةَ على مولدٍ للرسولِ
لتحلمَ،ثانيةً،بالسلام.