بين الردع والهيمنة على الإقليم:ملامح التحول في الاستراتيجية الإسرائيلية بعد السابع من أكتوبر
عمر رحال
منذ الاحتلال عام 1948، قامت العقيدة الأمنية الإسرائيلية على مبدأ الردع الشامل كأداة لضمان البقاء في بيئة عربية رافضة ومعادية لوجودها. لم يكن الردع الإسرائيلي مجرد مفهوم عسكري، بل منظومة فكرية متكاملة تستند إلى التفوق النوعي في القوة، والسيطرة على موازين الصراع، وإعادة تشكيل الوعي الجمعي الإقليمي بما يخدم مشروعها التوسعي. في هذا الإطار، استخدمت إسرائيل الحروب التوسعية والضربات الاستباقية كأدوات مركزية في فرض وجودها وتعزيز تفوقها. فكانت حرب 1967 نموذجاً مبكراً لمفهوم الردع القائم على المفاجأة والضربة الأولى، إذ استطاعت خلالها احتلال ما تبقى من فلسطين،وأراضي عربية أخرى،لتكرس بذلك اختلال موازين القوى في المنطقة.
بموازاة ذلك، بنت إسرائيل جيشاً مدرباً عالي التقنية، مجهزاً بأسلحة متطورة تشمل القدرات النووية غير المعلنة رسمياً، لكنها حاضرة كأداة ردع إستراتيجي ضد أي تهديد وجودي. كما أنشأت منظومة أمنية واستخبارية تعد من الأكثر تقدماً في العالم، مكنتها من اختراق العمق العربي، بل والتأثير في صناع القرار عبر أدوات الحرب النفسية والإعلامية. وقد اتخذ الإعلام الإسرائيلي موقعاً محورياً في تشكيل صورة إسرائيل كـ"قوة لا تُقهر"، مقابل ترسيخ صورة الهزيمة في الوعي العربي، مما ساهم في إضعاف الثقة بالذات الجماعية العربية، وتفكيك أسس التضامن الإقليمي.
غير أن أدوات الصراع تغيرت بمرور الوقت. فمع خروج مصر من معادلة الصراع بعد توقيع معاهدة كامب ديفيد عام 1979، وتدمير العراق عام 2003، وانهيار الدولة السورية بعد عام 2011، أعادت إسرائيل صياغة إستراتيجيتها من منطق الردع إلى منطق الهيمنة. لقد وجدت نفسها في بيئة إقليمية مشرذمة، تفتقر إلى منظومة ردع عربية متماسكة. وهكذا، تحوّل المشروع الإسرائيلي من السعي لتأمين الحدود إلى هندسة الإقليم ذاته بما فيها انكفاء إيران داخل حدودها الإقليمية، لكي تضمن تفوقها السياسي والعسكري والاقتصادي، وفي ظل تراجع فعالية معاهدة الدفاع العربي المشترك، بدا أن ميزان القوى يميل بوضوح لصالح إسرائيل التي استفادت من تراجع المركز العربي لتوسيع دوائر نفوذها عبر التطبيع.
تحول إسرائيل من الردع إلى الهيمنة لم يكن وليد القوة العسكرية فحسب، بل نتيجة تبنيها فكراً سياسياً يستند تعاليم توراتية ذات طابع عنصري، تستند إلى فكرة "شعب الله المختار" و"التفوق الأبدي"، كما تجسدها رموزها الثقافية والدينية، وحتى في نشيدها الوطني "هاتيكفا" الذي يُعبر عن نزعة استعمارية إحلالية ترى في الإقليم فضاء خالياً بانتظار "عودة" اليهود إليه. هذه الرؤية الفكرية جعلت من الأمن الإسرائيلي منظومة هجومية تهدف إلى التحكم في الفضاء العربي، ما جعل من الهندسة الجيوسياسية للإقليم هدفاً استراتيجياً لها.
وعلى هذا الأساس توسعت إسرائيل بعدوانها الأخير ليشمل إيران، ولبنان، وسورية، والعراق، واليمن، وغزة، وقطر ولم تعد الحروب فقط بين الجيوش النظامية، بل بين إسرائيل وتنظيمات تمثل أطراف المقاومة، لتتحول المعركة إلى حرب طويلة منخفضة الوتيرة، تتخللها جولات من التصعيد. فالحرب لم تنته يوماً، بل توقفت المعركة مؤقتاً بانتظار جولة جديدة، تُدار أدواتها عبر التفوق التكنولوجي والاختراق الاقتصادي والسيطرة المعلوماتية. من هنا، برزت إستراتيجية "الهندسة الإقليمية"، أي إعادة تشكيل خريطة الشرق الأوسط عبر تحالفات جديدة تضمن لإسرائيل موقع القيادة الإقليمية ضمن منظومة أمن جماعي غير عربية، مدعومة من الولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية.
بعد السابع من أكتوبر 2023، وجدت إسرائيل في الحدث فرصة لإعادة فرض خطابها الأمني القديم وتوسيعه نحو مشروع هيمنة إقليميٍ شامل. فبذريعة الدفاع عن النفس، حيث لا دفاع عن النفس لمحتل في القانون الدولي، شنّت عدواناً مدمراً على قطاع غزة، وحاولت في الوقت ذاته توظيف ذلك لإعادة رسم النظام الإقليمي برمته. استغلت إسرائيل الدعم الأميركي غير المشروط، والغربي المتواطئ، لتكريس تفوقها العسكري والسياسي والدبلوماسي. فتحت واشنطن أمامها المجال لتوجيه الضربات في عمق الإقليم، ووفرت الغطاء السياسي لمنع أي مساءلة دولية عن جرائم الحرب، في حين عملت بعض الدول الأوروبية على تبرير العدوان باعتباره جزءاً من "حق الدفاع الشرعي".
هكذا تحول الردع إلى وسيلة لتبرير الهيمنة، والهيمنة إلى أداة لإعادة إنتاج السيطرة الاستعمارية الغربية في المنطقة، حيث تشكل إسرائيل رأس الحربة في حماية المصالح الأميركية والأوروبية، سواء في ضمان تدفق الطاقة، أو مراقبة الممرات البحرية، أو مواجهة النفوذ الصيني والروسي. إن الفائدة التي يجنيها الغرب من استمرار التفوق الإسرائيلي تتمثل في بقاء المنطقة في حالة توازن هش، يسمح باستمرار الهيمنة الاقتصادية والسياسية دون الحاجة إلى تدخل مباشر مكلف. بعبارة أخرى، أصبحت إسرائيل "الوكيل الاستراتيجي" للغرب في الشرق الأوسط الجديد.
كما شهدت الاستراتيجية الإسرائيلية بعد السابع من أكتوبر 2023 تحولاً بنيوياً من منطق "الردع الدفاعي" إلى منطق الهيمنة الإقليمية، في محاولة لإعادة صياغة موازين القوة في الشرق الأوسط بما يضمن لإسرائيل موقع القيادة في منظومة أمن جماعي جديدة غير عربية. فقد أعادت إسرائيل تعريف مفهوم "الأمن القومي" من حماية الحدود وردع التهديدات إلى هندسة البيئة الإقليمية سياسياً واقتصادياً وأمنياً، عبر مزيج من القوة العسكرية الصلبة، والتحالفات الإستراتيجية مع بعض الأنظمة العربية، والتطبيع الأمني والتكنولوجي الذي يكرس تفوقها النوعي. كما وظفت العدوان على قطاع غزة لتبرير تدخلات أوسع في الإقليم تحت ذريعة ما يسمى "مكافحة الإرهاب" و"الدفاع عن النفس"، مستفيدة من الدعم الأميركي والغربي غير المشروط. هذا التحول لم يعد يستند إلى نظرية الردع التقليدية التي تقوم على توازن القوى، بل إلى منظور الهيمنة الوقائية الذي يهدف إلى إضعاف الأطراف المقاومة، وتفكيك مراكز القوة العربية والإسلامية المنافسة، وإعادة تشكيل خريطة الشرق الأوسط على نحو يخدم المشروع الصهيوني والهيمنة الغربية معاً.
لكن، وعلى الرغم من هذا التفوق الظاهري، فإن إسرائيل لن تكون قادرة على فرض هيمنتها على الإقليم. فمهما أوغلت في القتل والتدمير، ومهما تلقت من دعم مالي وعسكريٍ ودبلوماسيٍ من الولايات المتحدة وحلفائها، فإنها تبقى كياناً مرفوضاً في الوجدان الجمعي العربي والإسلامي. فالتطبيع السياسي لا يعني قبولاً شعبياً. فجوهر الصراع لم يحل بعد، وما دام الشعب الفلسطيني لم ينل حقوقه السياسية في تقرير مصيره وإقامة دولته المستقلة على ترابه الوطني، فإن الصراع سيبقى مفتوحاً، والمعركة مؤجلة لا منتهية. وبالتالي، ستبقى الحرب قائمة حتى لو توقفت المعركة مؤقتاً أو أُعلن وقف لإطلاق النار، لأن الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية والعربية، وسلوكه العدواني وتطلعاته الاستعمارية التوسعية، تجعل من اندلاع جولات جديدة من الصراع أمراً حتمياً. وعليه، فإن إسرائيل، مهما بلغت قوتها وعمق تحالفاتها، لن تنجح في الهيمنة على الإقليم، لأن الشعوب العربية حرة، وذاكرتها التاريخية حية، وإرادتها في التحرر لا تُقهر. فالهندسة السياسية التي ترسمها إسرائيل ومعها القوى الغربية ستبقى ناقصة ما دام هناك احتلال وما دام هناك شعب يرفض الخضوع، فالمعركة ليست بين جيوش أو دول، بل بين مشروع استعماري يسعى إلى إعادة إنتاج السيطرة ومشروع تحرر وكرامة.
لذلك، فإن كل محاولات الإخضاع والتطبيع والإذعان والترهيب لن تنتج السلام الذي تريده إسرائيل، لأن جذور الحرب كامنة في الاحتلال ذاته وفي السلوك العدواني الاستعماري الذي يقوم عليه. إن استمرار الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية والعربية، وسياساته الاستيطانية، وتطلعاته التوسعية، ستظل وقوداً لحروب جديدة. لذلك، فإن الحديث عن "نهاية الحرب" ليس سوى مرحلة مؤقتة، إذ أن نهاية المعركة لا تعني نهاية الصراع. وكما أثبت التاريخ، فإن الشعوب التي تحرم من الحرية لا تستسلم، بل تواصل نضالها جيلاً بعد جيل، حتى يتحقق العدل ويستعاد الحق.
وفي النهاية، قد تمتلك إسرائيل القوة لتنتصر في المعركة، لكنها لا تملك الشرعية لتنتصر في التاريخ. فالقوة تصنع الردع، لكنها لا تصنع القبول. والهيمنة قد تُفرض، لكنها لا تُستدام. لذلك، ستبقى المنطقة رهينة صراع مفتوح إلى أن يتحقق العدل وتستعاد السيادة للشعب، فالأمن والسلام التي تسعى إسرائيل لفرضه على دول وشعوب المنطقة لا يولد من فوهة البندقية، بل برحيلها عن أرضنا.
إن قراءة المسار التاريخي للصراع تظهر بوضوح أن إسرائيل، رغم ما تمتلكه من أدوات الردع وأساليب الهيمنة، تعيش مأزقاً بنيوياً لا يمكن تجاوزه بالقوة وحدها. فجوهر الصراع ليس في التوازنات العسكرية، بل في غياب العدالة، واستمرار الاحتلال، وإنكار الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني. ولهذا، فإن كل محاولات تثبيت الوضع القائم أو فرض معادلات جديدة عبر القوة والتطبيع ستظل هشّة، لأنها تتناقض مع منطق التاريخ وسُنن الشعوب التي لا تقبل العبودية.
وبالتالي سيبقى الصراع مفتوحاً، وما دام الصراع مفتوحاً فإن الحرب لن ولم تنتهِ، حتى لو توقفت المعركة مؤقتاً وكان هناك وقف لإطلاق النار. فالنار تحت الرماد، ما دامت جذور العدوان قائمة، وما دامت الأرض محتلة، وما دام الحق الفلسطيني مغتصباً. إن الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية والعربية، وسلوكه العدواني وتطلعاته الاستعمارية التوسعية، لن يفرز سلاماً على المقاس الإسرائيلي، وبالتالي لن تنعم إسرائيل بالأمن، بل بمزيد من عدم الاستقرار.
فالحرب المقبلة ليست احتمالاً بعيداً، بل نتيجة حتمية لمسار يقوم على الإقصاء والهيمنة. ومع كل جولة دم جديدة، يتكشف أن قوة إسرائيل الغاشمة لن تنهي الصراع ، بل تؤججه، وأن الردع القائم على البطش لا يصنع لها أمناً حسب فهمها القاصر، وأن الهيمنة لا تصمد أمام إرادة الشعوب الحرة. لذلك فإن مستقبل المنطقة لن يُكتب بإملاءات القوة، بل بإرادة الشعوب التي ترفض الخضوع، وبرحيل الاحتلال وجلائه عن أرضنا ، فقط عندها يمكن أن تنطفئ نار الحرب، ويستقر الإقليم.





