غزة المدينة التى لم توقع على هدنة

عيسى قراقع

أكتوبر 19, 2025 - 08:54
غزة المدينة التى لم توقع على هدنة

غزة المدينة التى لم توقع على هدنة
عيسى قراقع

ها هي غزة، 
تخرج من تحت الركام كما يخرج المعنى من فم الجرح،
تمشي على رمادها، تبحث عن وجهها القديم في المرايا المحطمة،
وتسأل الغبار: هل كنتُ مدينةً أم صرخة؟

البيوت لم تعد بيوتًا،
بل أطلال ذاكرةٍ تكتبها الأمهات بالدموع على الحجارة.
والأطفالُ الذين نجوا من الابادة،
يلعبون بالرماد كما يلعب غيرُهم بالثلج،
يبنون بيوتًا صغيرةً من الغياب،
ويزرعون بذور الامل في الحفر،  دون أن يسألوه إن كان سيكبر.

غزة الآن ليست مدينةً،
إنها نصٌّ مفتوح على كلّ اللغات،
قصيدة تبحث عن شاعرها في الغيوم،
تكتبها السماء بالنجوم،
ويصحّحها البحر كلّما عاد من موجةٍ جديدة.

الريح تمرّ من بين العظام
وتحمل رائحةَ الخبز المفقود والدم الذي لم يبرد،
والشمسُ، رغم التعب،
تطلّ كأمٍّ تبحث عن أولادها في الشوارع،
تسأل عنهم الحجر، وتسقي القبور بآيات المطر.

في غزة تبخر العقل في وهج القنابل،
عادت الأرض إلى العصور الوسطى،
وبسرعة الضوء سقطت كل الاقنعة.

في غزة تقدمت القباحة بثياب انيقة،
تضع على وجهها مساحيق الحضارة،
تقدمت الطائرات الذكية،
في عصر الجوائز والشاشات اللامعة.

في غزة اندثرت الانسانية،
صار الإنسان رقما في تقرير احصائي،
او جثة مؤقتة في نشرة عاجلة.

غزة ذاكرة النار،
ليست مدينة من حجر وركام،
من أراد أن يفهم معنى الانسان،
فليدخل الى غزة بقلب يبحث عن ذاته بين الحطام.

الناس في غزة لا ترحل،
يعود الأسير والشهيد،
ويسقط القيد والمؤبد،
لا احد ينتظر الاذن بالحياة،
لان الحياة هناك هي الحرية.
والحرية لا تؤجل.

غزة تمسك صوت المئذنة،
صوتا نازفا من الحناجر المحطمة،
تقرع الاجراس بيد من نار ويد من صلاة،
وتنادي:
ايها الموتى انهضوا،
في أرواحكم بذرة خضراء،
انا القيامة التي لا تنتظر السماء.

في غزة جلس المسيح على بلاط الكنيسة المحروقة وقال:
كل طفل يولد من فم القنبلة معجزة،
من أراد أن يختبر القيامة،
فليات إلى هذه المدينة،
هنا لم يمت الاطفال بل تحولوا إلى نور وملائكة.

في غزة وقف نيلسون مانديلا في خانيونس وقال:
يا غزة ستخرجين من سجنك كما خرجت من صدا القضبان،
انت لا تحاربين لتنتصري،
بل لتذكري العالم أن الإنسان وجد ليقاوم النسيان.

رايت الامام الشافعي في غزة،
يحمل خيمة وحطبا، ويكتب احاديث غزة باشلاء الراحلين،
وسمعته يقول: 
ما اقسى الحرب، لولا أن الله يسكن قلوب الصابرين.
.
جاءها محمود درويش من جهة الريح، قال لها:
يا غزة لا زال البحر يشبهك،
عنيدا، جميلا، لا يتعلم الخضوع،
كنت اكتب عن الوطن،
والان انت تكتبين بالدم،
ما لم استطع قوله بالحبر،
قولي لهم : تحررت القصيدة وبلغت سن الغضب،
فلا تبحثوا عني في الكتب.

في مكتبة حيدر عبد الشافي المدمرة عثرت غزة على وثيقة كأنها  وصية:
النصر ليس علما يرفع
بل قلبا لا ينهار،
النصر أن تبقى إنسانا حين ينهار العالم،
أن تحرس شرفك من التنازل،
وذاكرتك من التسوية،
الطريق الى الحرية اطول من الامل،
واقصر من الخيانة.

الالم له نبض في غزة، عبارة كتبت على جدار في مستشفى الشفاء،
إلى الشهيد الطبيب عدنان البرش الذي أعدم في سجون الاحتلال:
لن نشيعك بالدموع،
بل بالاسماء التي انقذتها يداك،
سنزرع سيرتك في مدارس الاحياء،
الطب في غزة مقاومة،
والشهادة ليست موتا، بل شفاء.

وصل أبولو اله الشمس والموسيقى في الأسطورة الاغريقية إلى غزة وانشد:
لقد علمت البشر الغناء،
لكن غزة علمتني الصمت الشريف،
الصمت الذي يصرخ بالمعنى،
حين تعجز الكلمات،
من رمادها خرجت الاصوات:
 نساء يخبزن بالطحين والدم،
اولاد يسرقون من الخوف بسمات.

في حي الشجاعية هناك صدى لصوت مروان البرغوثي:
غزة اسمع انينك في وحدتي،
كل قيد في معصمي ينبض باسمك،
انا مثلك ياغزة، اسير في مساحة ضيقة،
لكني احلم بلا سقف،
السجن عندي جدار،
والسجن عندك كوكب،
كلاهما يعبد نفس الصبر،
الوطن يا غزة ليس ما يسكننا،
الوطن هو الفكرة التي لا تؤسر،
التاريخ لا ينام،
دمعة واحدة توقظ الفجر.

وصل الشاعر المتوكل طه إلى بيت صديقه الكاتب الشهيد سليم النفار وصرخ يا سليم:
عد إلى بيت القصيدة وفجر القافية،
 غزة جنازة الحمامة، ونعش العروس،
غزة حررت العالم وحررتني،
الدنيا دون غزة ناقصة،
كل الرايات في غزة الا البيضاء.

غزة لم توقع على هدنة،
الحرب تحولت إلى ذاكرة حية،
تسكن الاشياء،
صارت وجعا يسكن المفردات،
وفقدانا يحرس الحكايات،
في الصور المبعثرة،
في فراغ الجسد والمكان، 
في الجوع والبؤس وكأس الماء،
في غيمة شاردة، ومدافن بلا اسماء.

تقول غزة للتاريخ:
لقد تركتمونا نموت أكثر من مرة،
لكننا في كلّ مرةٍ عدنا نحيا من كلمة،
من ضحكة طفل في العراء،
من أغنيةٍ صغيرةٍ على شفاه أرملة.

غزة عروسة تتفقد هداياها القديمة،
طفلة ما زالت تحتفظ بخاتم من طين،
وشهيد خبا لها وعدا في صدره،
ورعد يكتب في السماء اسمها كل مساء.

غزة تحمل على كتفها كل المدن المصلوبة،
وأغنية الشمس التي لا تقهر،
لا تحتاج إلى شفقة أو وثيقة،
ولا اوراق تضامن باردة،
هذه المدينة لا ترثى،
لانها الحقيقة.


وتقول للمستقبل:
لا تنتظرونا بأزهارٍ بيضاء،
نحن لا نعرف لون السلام،
لان السلام الذي ينسى هو حرب مؤجلة،
لكننا نعرف شكلَ القلب حين ينبض رغم الرصاصة،
ونعرف أن الحياة تُبنى
من جدارٍ مهدومٍ وإرادةٍ لم تُهزم،
من نشيدة تُكتب على جدار مدرسة،
من كرامة لا ترمم،
ومن يدٍ تزرع زهرةً  في حضن مقبرة.

غزة،
مدينة تعلّمت أن تتنفس تحت الأنقاض،
أن تضحك في جنازتها،
وأن تكتب قصيدتها بدمها، لا بحبرها،
فالحرية فعل ولادة متكررة من رحم الالم.


غزة لم توقع على هدنة.
لا سلام دون حرية،
ما تهدم هو العدالة لا البيوت،
غزة لا تحتاج إلى الاسمنت،
بل إلى ضمير يعترف بجرح في الذاكرة.

الحرب توقفت، لكنها غيرت شكلها،
صارت ناعمة، توقع اتفاقيات،
وتبتسم للكاميرا،
لبست ثوبا مدنيا،
دخلت البيوت بلا اذن،
وشربت معنا القهوة المرة.

اسرائيل تبحث عن جثث جنودها،
بينما الجثث الفلسطينية بلا هوية،
آلاف الجثث أعدمت وقيدت وهرست،
تطوى في ثلاجات باردة،
تخفى تحت التراب،
في المعسكرات السرية،
او في اكياس سوداء،
لكن من يعيد جثة غزة المتفحمة،
ويعيد تعريف الحياة عندما تقاوم الفناء؟

غزة تعلن أن الحرب ليست من يقرر الموت،
بل الإنسان الذي يرفض أن يمحى،
الأرواح هي التي تبحث عن الاجساد في غزة،
في وجه ام فقدت ابناءها،
في الظلال،
في الهواء،
في بقايا الدفاتر الممزقة،
الاحباء الغائبون ينامون على صدرها، 
اليوم وغدا، والى آخر الاخرة،
فالأمم تزول حين تنسى.

الحربُ مرّت،
لكنها لم تنتصر.
وغزة، رغم الدمار، لم توقع على هدنة،
ما زالت تقول للعالم: أنا الحياة التي لا تموت،
يد تبحث عن يد اخرى،
كمن يبحث عن نجمة في العتمة،
ما هذا الحب في المسافة القريبة بين القذيفة والقبلة؟
بين الجحيم والوردة.

اني رايت غزة تمشط شعرها على الرمل،
يا الهي!
كيف يجتمع الموت والخراب والجمال والغزل؟ 
في غزة الحب أقوى من القنبلة.