من غزة إلى الممر الهندي–الأوروبي: هل يُرسم مستقبل المنطقة على شواطئ المتوسط؟
جمال العبادي : باحث دكتوراه في العلاقات الدولية

من غزة إلى الممر الهندي–الأوروبي: هل يُرسم مستقبل المنطقة على شواطئ المتوسط؟
جمال العبادي
باحث دكتوراه في العلاقات الدولية
مقدمة: غزة بين الصراع والتحول
لطالما شكل قطاع غزة نقطة حساسة على خريطة الشرق الأوسط، ليس فقط بسبب الصراع الفلسطيني–الإسرائيلي المستمر، بل أيضًا لموقعه الجغرافي الاستراتيجي على ساحل البحر المتوسط وقربه من مسارات الطاقة والتجارة الدولية. ومع تصاعد المبادرات الدولية لإنهاء النزاعات وفتح أفق التنمية، بدأت ملامح تحول حقيقي في وظائف القطاع تظهر تدريجيًا، تتحرك بين الأمن والسياسة والاقتصاد.
خطة ترامب الأخيرة لوقف العدوان على غزة، التي أعلنها في خريف 2025، أعادت طرح مشاريع قديمة من زاوية جديدة، أبرزها تحويل غزة إلى ما يمكن تسميته "الريفيرا الغزية"؛ مشروع يهدف إلى تحويل القطاع إلى مركز سياحي وتجاري وإعادة هندسته اقتصاديًا، بعيدًا عن أفق الحل السياسي التقليدي. كما يرتبط هذا المشروع بخطط أكبر لتأسيس الممر الاقتصادي الهندي–الأوروبي (IMEC)، الذي تسعى الولايات المتحدة والهند والدول الخليجية عبره إلى خلق شبكة تجارية استراتيجية منافسة لمبادرة الحزام والطريق الصينية.
يتناول هذا التحليل هذه الرؤية من زوايا متعددة: الاقتصادية، والجيوسياسية، والأمنية، والفكرية، مع محاولة استشراف تأثيرها على مستقبل غزة والمنطقة، وإعادة النظر في جدلية الحل الاقتصادي مقابل الحل السياسي.
"الريفيرا الغزية": مشروع لإعادة تعريف غزة
تتمحور فكرة "الريفيرا الغزية" حول إعادة هندسة القطاع على المستويات الاقتصادية والجغرافية والاجتماعية. فهي تسعى إلى تحويل غزة من ساحة صراع محاصرة إلى منصة اقتصادية منفتحة، قادرة على جذب الاستثمارات والسياحة الدولية، واستثمار موقعها الجغرافي المتميز على ساحل المتوسط.
هذا المشروع يحمل أهدافًا متعددة:
- تنمية البنية التحتية: إقامة مناطق حرة وموانئ حديثة، وتحسين شبكات النقل والخدمات، بما يعزز من مكانة غزة كمركز تجاري وسياحي.
- تحويل الهوية الاقتصادية: الانتقال من قطاع يعتمد على المساعدات الإنسانية ويعاني من القيود الاقتصادية إلى منصة اقتصادية متكاملة.
- إدارة دولية أو إقليمية: إشراف على الأمن والإدارة المدنية عبر هيئات دولية أو تحالفات إقليمية، ما يقلص سلطة الفواعل المحلية المستقلة.
يبقى جوهر هذه الرؤية في تحويل غزة إلى نموذج "الاقتصاد أولًا"، مع تقديم التنمية الاقتصادية كبديل عملي لحل سياسي معقد أو متعثر. هذه التجربة تعكس توجّهًا أوسع داخل الدوائر الأمريكية والغربية لإعادة صياغة دور المناطق النزاعية، من خلال التحكم في أفق التنمية بدلًا من التحكم المباشر في السياسة.
الممر الاقتصادي الهندي–الأوروبي وأبعاده الجيوسياسية
يمثل الممر الاقتصادي الهندي–الأوروبي (IMEC) مشروعًا استراتيجيًا يهدف إلى ربط الهند بأوروبا عبر شبكة من الموانئ وخطوط النقل التي تمر بالشرق الأوسط، مرورًا بدول الخليج والسعودية والأردن وإسرائيل، قبل الوصول إلى أوروبا. ويُعد هذا المشروع منافسًا مباشرًا لمبادرة الحزام والطريق الصينية، ويسعى إلى تأمين النفوذ الأمريكي والهندي على مسارات التجارة والطاقة الحيوية.
في هذا السياق، تكتسب غزة أهمية خاصة بسبب قربها من ميناء أسدود الإسرائيلي، النقطة المحورية التي تمثل نهاية الممر. فوجود غزة كمنصة اقتصادية متكاملة يمكن أن يعزز فعالية الممر، ويوفر مرونة لوجستية واستثمارية إضافية، ويؤمن جزءًا من النفوذ الاستراتيجي للجهات الداعمة للمشروع.
الربط بين "الريفيرا" و"الممر": هندسة اقتصادية للمنطقة
تتقاطع أهداف مشروع "الريفيرا الغزية" مع الممر الاقتصادي الهندي–الأوروبي على عدة مستويات:
- تعزيز الربط الجغرافي–الاقتصادي: تحويل غزة إلى مركز تجاري وسياحي يوازي وظيفة الممر، ويقدم نقاط دعم لوجستي واستثماري على الساحل.
- تثبيت النفوذ الامريكي والغربي: الدمج في شبكة الممر يضمن النفوذ الأمريكي والغربي في المنطقة، ويحد من أي توسع محتمل للقوى المنافسة مثل الصين أو إيران.
- الحل الاقتصادي بديلًا عن الحل السياسي: إعمار غزة وتحويلها إلى منصة اقتصادية يقلل من المطالب السياسية ويخلق بيئة أكثر قبولًا للاستثمارات والتحالفات الإقليمية.
- تجربة نموذجية قابلة للتعميم: إذا نجحت التجربة في غزة، يمكن تطبيق النموذج على مناطق أخرى، ما يفتح أفقًا لإعادة هندسة اقتصادية واسعة النطاق في الشرق الأوسط.
الحل الاقتصادي كبديل عن الحل السياسي
تشير الأدبيات والتحليلات إلى أن هناك توجهًا متزايدًا لدى بعض الدوائر الأمريكية والخليجية لتقديم الحل الاقتصادي كأداة لتثبيت الاستقرار، بدلًا من الاعتماد على المفاوضات السياسية المعقدة والطويلة. ويُنظر إلى غزة في هذا الإطار ليس ككيان سياسي مستقل، بل كمنطقة يمكن تحويلها اقتصادياً تحت إشراف دولي، بما يضمن تحقيق أهداف الاستقرار والنفوذ دون الدخول في مفاوضات سياسية طويلة.
يتيح هذا التوجه إمكانية:
- استثمار الموارد الطبيعية والبحرية في القطاع، مثل الغاز الطبيعي والسواحل البحرية.
- جذب الاستثمارات الأجنبية والخليجية، مع خلق فرص اقتصادية جديدة للسكان المحليين.
- تحقيق أهداف أمنية عبر إشراف دولي على المنطقة يقلل من التوترات الداخلية.
لكن يبقى التساؤل عن حدود هذا الحل: هل يمكن للمنطق الاقتصادي أن يحل محل الحقوق السياسية والثوابت الوطنية؟ أم أن هذا التوجه سيواجه مقاومة محلية وإقليمية تجعل تطبيقه محدودًا أو مؤقتًا؟
استشراف المآلات: هوية غزة في مفترق الطرق
تحويل غزة إلى منصة اقتصادية دولية يعني إعادة تشكيل هويتها بشكل جذري:
- من قطاع مقاوم ومحاصر إلى مركز مفتوح للتجارة والاستثمارات الدولية.
- تحجيم سلطة الفواعل المحلية واشغالها في قضايا داخليه مما يعززالتشرذم والانقسام.
- إعادة توزيع الموارد وخلق تحالفات اقتصادية جديدة تخدم مصالح القوى الداعمة للمشروع.
إن هذا التحول يطرح أسئلة حاسمة حول مستقبل غزة والمنطقة، وعلى الأخص حول قدرة الحل الاقتصادي على الصمود في مواجهة التعقيدات السياسية والاجتماعية والتاريخية، وهل يمكن فصل الاقتصاد عن السياسة في مناطق النزاع؟
سؤال مفتوح للمستقبل
إن الربط بين مشروع "الريفيرا الغزية" والممر الاقتصادي الهندي–الأوروبي يكشف عن مشروع جيو–اقتصادي واسع، يراد له أن يعيد رسم ملامح الشرق الأوسط على شواطئ المتوسط، من خلال تحويل نقاط النزاع إلى منصات استثمار وربط تجاري. لكن يظل السؤال الأكبر:
هل ستكون غزة مختبرًا لنموذج جديد من “السلام الاقتصادي” يعيد تشكيل المنطقة وفق منطق الممرات والمشاريع، أم أن تعقيدات الواقع السياسي والتحديات المحلية والإقليمية ستُفجّر هذا النموذج قبل أن يترسخ؟