كيف تشتري ذلّك بالدولار على جسر الكرامة

كيف تشتري ذلّك بالدولار على جسر الكرامة
انظروا إلى هذه الصورة جيداً (تخيل معي صورة لأناس أنهكهم الانتظار تحت الشمس الحارقة، وجوههم مزيج من القهر والترقب). هؤلاء ليسوا لاجئين يحاولون عبور حدود شائكة في فيلم هوليودي. هؤلاء "محظوظون". هؤلاء هم زبائن الدرجة الأولى في جحيم السفر الفلسطيني. إنهم يدفعون مئات الدولارات، مبلغ كافٍ تماماً لنقل فردٍ منهم من قارة إلى أخرى على متن خطوط طيران محترمة، فقط ليعبروا هذه المسافة البائسة التي لا تتجاوز بضعة كيلومترات، من ضفة إلى ضفة، حاملين معهم ذلهم وهوانهم وساعات انتظارهم تحت شمس الاغوار التي لا ترحم.
يقولون إن المال لا يشتري السعادة. يا لها من كذبة جميلة! اثبتت انها كذبة في كل مكان بالعالم الا هنا على معبر الكرامة، على هذه البقعة من الأرض، المال لا يشتري لك السعادة فعلا. لا تظنوا أن خدمة الـ "VIP" تعني سيارات ليموزين فاخرة أو سجاداً أحمر يُفرش تحت قدميك. يا للسذاجة! لقد وصمنا نحن الفلسطينيين مصطلح "VIP" بالعار الأبدي. في كل قواميس العالم، تعني "Very Important Person" خدمة لشخصيات هامة، ترفاً، دلالاً. أما في قاموسنا، فهي تعني "Very Insulted Palestinian" (فلسطيني مُهان جداً)، أو بعبارة أدق، محاولة يائسة للهروب من طابور الذل الطويل إلى طابور ذلٍ أقصر وأسرع قليلاً، مقابل ثمن باهظ.
تبلغ الكلفة المعلنة لهذه الخدمة "المميزة" حوالي 150 دولاراً للشخص الواحد في الاتجاه الواحد. لكن أنا وأنت وهم، وحكوماتنا الرشيدة هنا وهناك، نعلم جميعاً أن هذا مجرد سعر ابتدائي، فاتح شهية. فالسماسرة، هؤلاء الوسطاء المباركون الذين ينبتون كالفطر السام على جانبي النهر، يتقاضون أضعاف هذا المبلغ. تصل الكلفة أحياناً، مع "الإكراميات" و"تسهيل الأمور"، إلى 400 دولار. 400 دولار لعبور مسافة يمكنك قطعها سيراً على الأقدام لو لم تكن محاطاً بالأسلاك الشائكة والبنادق والبيروقراطية القاتلة. بهذا المبلغ، يمكنك أن تحجز تذكرة على درجة رجال الأعمال من عمان إلى باريس، وتستمتع بوجبة ساخنة وخدمة تليق بإنسان. أما هنا، فكل ما تحصل عليه هو مقعد في حافلة تنتقل بك من سيطرة إلى سيطرة، ومن ختم إلى آخر.
إنها الكوميديا السوداء في أبهى تجلياتها. أناس يمتلكون المال الكافي، لكن جواز سفرهم الأخضر، وتقصير حكومتهم المتعمد، وتواطؤ حكومة "الشقيقة" ، جعلهم فريسة سهلة لسماسرة بلا ضمير. رشاوٍ، دفع، عذاب، انتظار بالساعات تحت الشمس الحارقة... كل هذا ليس لطلب المستحيل. لم يطلبوا أبداً أن تُقلّهم سيارات الليموزين، لم يحلموا بقاعة انتظار فاخرة. كل ما أرادوه هو أن يمروا. أن يعودوا إلى منازلهم في الضفة الغربية، حيث تبدأ رحلة شقاء أخرى عبر حواجز الاحتلال التي تقطع أوصال المدن، من أريحا إلى رام الله ونابلس والخليل.
وهذه ليست أزمة صيف عابرة. إنها طقس سنوي مقدس، يتكرر منذ الأزل، أو منذ النكبة على الأقل، أيهما أقدم لا أدري. في كل عام، ومع اشتداد الحر وازدياد أعداد المسافرين، تندلع الأزمة. يخرج علينا وزير ما، ببدلته الأنيقة ووجهه الذي تفوح منه رائحة التكييف المركزي، ليزور المعبر ويلتقط بعض الصور، ثم يعدنا بتشكيل لجان وتحسينات وحلول جذرية قادمة لا محالة. ثم، وكما هي العادة، تذوب الوعود تحت شمس اليوم التالي، ويُترك الفلسطيني ليواجه مصيره وحيداً، وكأنه يمر مجاناً، لا كأنه قادم لإنعاش اقتصاد منهك يستفيد من قدومه الجميع، من أصغر بائع ماء إلى أكبر مسؤول.
والأدهى من كل هذا، هو هذا الشعب العظيم الذي لا يدرك حجم قوته الحقيقية. شعبٌ أدمن التأقلم مع الذل، حتى بات يعتبره قدراً محتوماً. نتحدث عن المقاطعة، وننظّر لها في كل محفل، لكننا أول من يهرول لدفع "خاوة" المرور بكرامة زائفة. نلعن السماسرة في جلساتنا الخاصة، ثم نلجأ إليهم في أول اختبار حقيقي. لقد فقدنا بوصلة الاعتراض، وبتنا نتعامل مع الأزمات وكأنها جزء من روتين حياتنا اليومي الذي يجب التعايش معه.
إلى متى؟ هذا هو السؤال الذي يطرحه كل فلسطيني وهو يمسح حبات العرق عن جبينه في استراحة العذاب تلك. ماذا يفترضون بنا أن نشعر بعد كل هذا الإذلال الممنهج؟ أن نحبهم؟ أن نشكرهم على إتاحة الفرصة لنا لدفع ثمن عودتنا إلى سجننا الكبير؟ إنهم، جميعهم بلا استثناء، الإسرائيلي والأردني والفلسطيني الرسمي، يشاركون في هذه المسرحية الهزلية، ويدفعون المواطن العادي دفعاً نحو كره الجميع، والكفر بالجميع.
إن هذا الضغط الهائل لا يمكن أن يستمر إلى ما لا نهاية. فالانفجار قادم حتماً، انفجار غضب شعبي عارم لن تقتصر تبعاته على طابور ينتظر على جسر. ستكون له تبعات تتجاوز الحدود المحلية لتهز المنطقة بأسرها. فعندما تُغلق كل الأبواب في وجه إنسان، وتُسلب منه كرامته على مرأى ومسمع من العالم، وعندما يصبح مجرد حقه في العودة إلى بيته سلعة تُباع وتُشترى في سوق سوداء، فمن يلومه إن قرر في لحظة ما أن يحطم كل شيء؟ من سيكون قادراً حينها على تحمل تبعات هذا الانفجار؟ لا حكومة رام الله المنشغلة بتنسيقها الأمني، ولا حكومات الجوار التي ترى في الفلسطيني عبئاً ومورداً مالياً في آن واحد، وبالتأكيد ليس الاحتلال الذي بنى وجوده كله على سياسة خلق اليأس والقهر.
سيأتي ذلك اليوم، وسينظر الجميع بدهشة إلى هذا الفلسطيني الذي انفجر فجأة، وسيتساءلون في بلاهة: "لماذا؟". لن يدركوا أنهم كانوا يملؤون خزان غضبه كل يوم، قطرة بقطرة، دولاراً بدولار، ساعة انتظار بساعة انتظار، على جسر لم يعد يحمل من "الكرامة" إلا اسمها.