هل المساعدات الإنسانية لغـزة "حصان طروادة" ؟!

مايو 29, 2025 - 08:51
هل المساعدات الإنسانية لغـزة "حصان طروادة" ؟!

نبهان خريشة

تكشف التقارير التي نشرتها صحيفتا نيويورك تايمز وهآرتس عن زوايا غير معلنة في الخطة الإسرائيلية الجديدة لتوزيع المساعدات في قطاع غزة، وتسلّط الضوء على أهداف أوسع تتجاوز البعد الإنساني المُعلن. فبعيداً عن تقديم المساعدات كمبادرة إنسانية أمريكية، تشير المعطيات إلى أنها في واقع الأمر ولدت في إسرائيل، وتم تفصيلها لتناسب ظروف الحرب ومصالح تل أبيب، لا لاحتياجات الفلسطينيين المنكوبين في غزة.
وتسعى إسرائيل من خلال هذه الخطة إلى التحكم في مسار المساعدات واستخدامها أداة سياسية واستراتيجية. فمن خلال إنشاء منظمات خاصة "غامضة" لتوزيع المساعدات – يُعتقد أنها واجهات لإسرائيل رغم تقديمها نفسها كمبادرة أمريكية – تعمل تل أبيب على ضمان بقاء عملية الإغاثة في إطاررؤيتها الأمنية. إنها لا تكتفي بمجرد تسهيل دخول المساعدات، بل تطمح إلى التحكم الكامل في نوعيتها، وجهتها، وتوقيتها. بذلك، تحول صندوق المساعدات الأميركي إلى ذراع ميدانية مكملة لعملياتها العسكرية، وليس معارضة لها أو منفصلة عنها.
والمفارقة اللافتة أن هذه الخطوة تأتي في الوقت الذي توسع فيه إسرائيل من عملياتها البرية، وتدفع بعشرات آلاف الجنود إلى عمق غزة. عادة، ترتبط المساعدات بالإغاثة في فترات الهدوء، لا أثناء التصعيد، مما يكشف ازدواجية هدف إسرائيل: فهي تخلق مشهداً يبدو إنسانيًا من جهة، وتواصل عملياتها العسكرية الكثيفة من جهة أخرى. هذه الازدواجية ليست اعتباطية، بل تخدم استراتيجية واضحة: إدامة الضغط على السكان المدنيين، مع تقديم "طوق نجاة" مشروط ومراقب، تسيطر عليه هي.
ومن خلال تركيز توزيع المساعدات في مناطق مثل رفح، حيث تم ترحيل مئات آلاف الفلسطينيين قسراً تحت وطأة القصف، تساهم إسرائيل في ترسيخ واقع جغرافي جديد. كأنها تقول للمدنيين: لا أمان إلا في الجنوب، ولا غذاء إلا لمن يغادر شمال ووسط القطاع. وبذلك، تتحول المساعدات من وسيلة إغاثة إلى أداة ضغط تستخدم لفرض التهجير الداخلي والخارجي، تحت غطاء "النجاة". وفي ظل غياب قنوات أممية مستقلة لتوزيع المساعدات، فإن هذا الشكل من التحكم يفتح الباب لمزيد من الانتهاكات المقنّعة بـ"الضرورة الإنسانية".
وربما أخطر ما في المشهد هو توظيف إسرائيل لحالة الحرب لتبرير سياسات قد تُعتبر من منظور القانون الدولي "ترحيلًا قسريًا". فهي تدعي أن قتالها ضد حماس يتطلب إفراغ مناطق كاملة من السكان، في حين تجبر المدنيين على النزوح عبر القصف والتجويع. في هذا السياق، تبدو المساعدات وسيلة لفرض خريطة ديموغرافية جديدة في القطاع، تحت غطاء دولي هش، ومباركة غير مباشرة من واشنطن التي تتولى تمويل هذه العملية تحت مسمى "الإغاثة".
وفي المرحلة الحالية، تحوّلت حرب غزة من مجرد مواجهة عسكرية إلى مشروع سياسي شامل، يتناول الجغرافيا والديموغرافيا في آن معا. إسرائيل لا تكتفي بتفكيك بنية حماس، بل تسعى لتفكيك البنية السكانية والسياسية للقطاع برمته. ومن خلال هذه الخطة "الإنسانية" الجديدة، نراها تطبق رؤية تمتد إلى ما بعد الحرب: غزة مجزأة، مجتمع منهك، سكانها موزعون قسراً، ومساعداتها تحت الرقابة العسكرية. إن مشهد الحرب الآن ليس فقط مشهد معركة، بل مشروع لإعادة هندسة غزة سياسيا وسكانيا، وربما جغرافيا.
هذه التطورات تجعلنا أمام مشهد يذكرنا بأسطورة "حصان طروادة"، حيث يُستخدم غطاء إنساني لاختراق منطقة مستهدفة سياسياً وأمنياً. فبدلاً من أن تكون المساعدات وسيلة للتخفيف من المعاناة، قد تتحول إلى أداة للرقابة، وربما للتجسس، أو حتى لإعادة تشكيل خرائط النفوذ داخل غزة بما يتماشى مع المصالح الإسرائيلية والأمريكية.
وفي ضوء هذه المعطيات، يصبح لزاماً على المجتمع الدولي، وخصوصاً المنظمات الإنسانية المحايدة، أن تطالب بتحقيق شفاف في طريقة إدارة هذه المساعدات، وأن تشرف جهات نزيهة وموثوقة على إيصالها للفلسطينيين المحتاجين، بعيداً عن أي حسابات سياسية أو أجندات أمنية خفية. وكذلك فإن تساؤلات المجتمع الدولي يجب ألا تقتصر على ما إذا كانت المساعدات تصل، بل على كيف تصل، ولمن، وبأي شروط. لأن ما يجري اليوم قد يحدد شكل غزة لعقود قادمة، تحت عنوان: "المساعدة مقابل الخضوع"..
في نهاية المطاف، تبقى المساعدات الإنسانية عملاً نبيلاً لا يجوز استخدامه كورقة ضغط أو وسيلة اختراق. وإذا ثبت أن "حصان طروادة" قد دخل غزة تحت عباءة المساعدات، فإن ذلك سيكون انتكاسة أخلاقية وقانونية لكل من يقف خلف هذه الخديعة، على حساب دماء ومعاناة الأبرياء.

..............

تبدو المساعدات وسيلة لفرض خريطة ديموغرافية جديدة في القطاع، تحت غطاء دولي هش، ومباركة غير مباشرة من واشنطن التي تتولى تمويل هذه العملية تحت مسمى "الإغاثة".