المكلومون
بهاء رحال
تعبنا من صورتنا المخملية، يقول ناجٍ من ليل القصف، قد لا تعجب البعض كلماتي، فقد أرهقتنا هذه الصورة، وأن يرانا العالم أقوياء، نحن عاديون مثلكم، بشر من لحم ودم، نحتاج أن نبكي طويلًا، وأن نجمع بقايانا بعيدًا عن الصورة وعين الكاميرا وأصوات المحللين من كل العواصم. لا أريد هذه البطولة التي أراني فيها.
أشتهي قهوة الصباح ولو فوق ركام بيتي، ولا أجدها، ولا أتمنى تعاطفًا لفظيًا من أحد، حين أدخل خيمتي في الليل، فلا شيء فيها يحميني من برد الشتاء وماء المطر الذي أغرقنا ولم يتلطف بنا. غرقنا في وحل الطين وتيه الدرب والنزوح من منطقة إلى أخرى، وأوجعتنا أيامنا إلى درجة لم يعد بوسعنا أن نحتمل أكثر. خذوا عني هذه البطولة، لا أريدها، فقط أريد أن أبكي طويلًا وأنا أجمع ذكرياتي مع من رحلوا واستشهدوا وارتقت أرواحهم إلى السماء.
تقول سيدة لم نأكل الخبز منذ أيام، أطفالي ثلاثة وزوجي استشهد قبل شهر، ولا نملك الطعام ولا الدواء، وخيمتي بللها مطر الشتاء، ولا ثياب لدي أو فراش نأوي إليه. تقول أخرى ها أنا وابنتي الوحيدة آخر الناجين حتى الآن من عائلة كانت تعد تسعة أفراد، إضافة إلى الجد والجدة، وكلهم ماتوا في لحظة قصف على خيام النازحين، لا نملك شربة ماء ولا رغيف خبز. تأتي كاميرا أحدهم فتلتقط صورة لملامح عجوز قهرته الأيام، فبكى عجزه وضعفه وبؤس الحال، ورفع يديه إلى السماء راجيًا وداعيًا وباكيًا. مشاهد الناس ومعاناتهم لا تصف حقيقة اللحظة، فالصورة عادة ما تصاب بالنقصان، والحقيقة أكبر وأكثر ألمًا ووجعًا، وغزة اليوم أكثر من أي وقت مضى تحتاج وقف الإبادة الجماعية ووقف التطهير العرقي والحصار، فهل من مغيث!
تعِبَ الناس من هول حرب الإبادة المستمرة، ولم يعد بوسعهم احتمال المزيد من الألم والموت والفقد، وهم في أمس الحاجة لالتقاط أنفاسهم، وأن تتوقف المقتلة فأنين الضحايا ملأ الدنيا، وأصوات نداءات الاستغاثة عابرة للقارات، وحال الناس البائس يجول في قنوات العالم، ولم تسعف الصورة المعبأة بالنقصان، أهلنا في غزة بوقف الإبادة ولم يرتق النظام الدولي لمستوى العدالة وتحقيقها في غزة التي تموت كل لحظة، فأين هي مواثيق الأمم؟ وأين هي هيئات وقوانين حقوق الإنسان؟