حرب غزه والخيار الشمشوني

مايو 13, 2024 - 17:06
حرب غزه والخيار الشمشوني
الحرب على غزه ترقى للحروب الكلية الشاملة، ويمكن مقارنتها بالحروب الكونية، بأطرافها ‏وفواعلها وتداعياتها. فالحرب على غزة ليست قاصره على إسرائيل وحماس، بل تشمل الدور ‏المباشر للولايات المتحده كقوة كونية أحادية وقوى إقليمية، وتفعيل لدور الفواعل من غير الدول، ‏وبالحراك الطلابى الذى يعم الجامعات الأمريكية والأوروبية والكثير من الدول الأخرى، وفى ‏المسيرت الشعبية باختلافها، وهذا كله يجعلنا أمام نموذج إستثنائي لحرب لا تكافأ بين طرفيها ‏الرئيسيين، إسرائيل وحماس، مما يعنى أن تداعياتها قد تدخلنا في سيناريو الخيار الشمشونى، ‏فهى من أنواع الحروب التي يصعب أن تنتهي بالنصر المطلق، فعلى الرغم من مرور أكثر من ‏سبعة أشهر والحجم غير المسبوق من الضحايا المدنيين في غزة، الذى يزيد عن أربعين ألفا، وأكثر ‏من مائة ألف جريح ومعاق هم أقرب للموت، وتدمير شامل للبنية التحتية التي كانت أصلا ضعيفة‏، وتدمير أكثر من سبعين في المائة من منازلها، ليجد أكثر من مليوني نسمه أنفسهم يعيشون في ‏العراء وبلا غطاء إنساني.
رغم ذلك لم تنجح إسرائيل في تحقيق الأهداف المعلنة منها، والتساؤل ‏ثانية هو: ما علاقة الخيار الشمشونى بهذه الحرب؟ لو عدنا إلى عملية طوفان الأقصى، لنجد من ‏عناصر هذا الخيار الذى مس هيبة وبقاء إسرائيل، لترد إسرائيل بهذا الخيار في محاولة هدم المعبد ‏على رؤوس الجميع. والسؤال: هل من علاقة بين الحرب وخيار شمشون الجبار؟ الإجابة على ‏السؤال لن تقتصر على إسرائيل فقط، بل قد تشمل أيضا حماس، فإسرائيل لن تسمح لحماس أن ‏تنتصر وتحقق ما تريد، لأن هذا يعنى نهاية إسرائيل. وحماس من جانبها، لن تسمح لإسرائيل بأن تنتصر، ‏عبر ما تملكه من أوراق قوة، وأهمها العمليات الفردية التي تتسبب بإنهيار المعبد على الجميع. ‏والصورة الثالثة للخيار الشمشونى مشاركة جماعات أخرى، كما نرى الحوثيين وغيرها، وقد تجر ‏لمشاركة وأوسع تدخل من الجميع أمام هذا الخيار. وإذا كانت هناك علاقة فما هي أوجه الشبه؟ القاسم ‏المشترك، هو غرور القوة وعدم رؤية الواقع رؤية واقعية سليمة، فلا إسرائيل يمكنها القضاء على ‏حماس والمقاومة الفلسطينية من جذورها، ولن يأتي اليوم الذى تعلن فيه حماس إستسلامها، فبدلا ‏من ذلك سيأتى يوم هدم المعبد، ولا حماس قادرة، وهي لن تقدر على هزيمة إسرائيل بكل قوتها، ولن ‏يسمح لحركة أو لفصيل تحقيق هذا الهدف. ومع إفتراض أو تخيل ذلك فقد تذهب إسرائيل ‏للجوء لقوتها النووية كخيار اخير لتهدم المعبد على رؤوس الجميع.
وعلى الرغم من مرور أكثر من سبعة ‏أشهر على هذه الحرب، فما زالت الإبادة وغرور القوة الإسرائيلية طاغية ومسيطرة، عبر التدمير والقتل ‏دون اعتبار لطفل أو مسن، وفى الوقت ذاته إستمرار المقاومة وحماس بإطلاق ما تبقى من ‏صواريخ كرسالة على عدم الإستسلام والقبول بما تحاول إسرائيل فرضه لليوم التالي للحرب (بدون ‏حماس).
والمفارقة في هذا الخيار هو الثمن غير المحتمل بشريا الذي، يتحمله أكثر من مليوني نسمه ‏في غزة، ينزحون من مكان لآخر في مساحة لم تعد قادرة على إستيعابهم، فهم من يتحملون خيار ‏هدم المعبد حتى اللحظة.
إسرائيل فقدت بصيرتها بغرور قوتها، ولم تعد ترى إلا الدمار والقتل، ‏وترفض حتى دراسة الواقع الذى فرضته الحرب، وترفض كل الحلول السياسية وأى تسوية ‏تفاوضية قائمة، مدعية أنها لم تحقق هدفها بالقضاء على حماس، وحماس من جانبها (ولها الحق في ‏ذلك) ترفض الهدنة المؤقتة أو المستدامة، وتطالب بوقف كامل للحرب، الأمر الذى تعتبره إسرائيل هزيمة‏، فعودة حماس من وجهة نظر إسرائيل للحكم يعنى هزيمة لها ونصرا لحماس، وهذا السيناريو ‏مستبعد تماما.
الحرب خلقت بيئة سياسية جديدة، لا يمكن أن تعود معه غزة كما كانت في السابق، ‏فلا يمكن تصور حكم حماس وتطوير قدراتها العسكرية ثانية، ولا يمكن في الوقت ذاته قبول ‏عودة إسرائيل لإحتلال غزة من جديد، لأن هذا الوضع يقرب الجميع من خيار شمشون واستمرار ‏الحرب بدرجاتها وأشكالها المختلفة، ولعل الذى يقوي من خيار شمشون، أن إسرائيل "تعيش" في ‏قلب غزة والأراضى الفلسطينية، وحماس والشعب الفلسطينى يعيش في قلب إسرائيل ذاتها، وهذا ‏من شأنه أن يوفر كل الظروف المناسبة لهدم المعبد على رؤوس أصحابه.
مشكلة إسرائيل أنها لم ‏تقدر حجم التضحيات التي قدمها الشعب الفلسطينيى، ولعل أخطر ما يدفع في اتجاه التسريع ‏بخيار شمشون الجبار حالة الكراهية والحقد والرغبة في الثأر، ناهيك عن ‏الأيدولوجية العمياء التي تحكم الحزب الحاكم في إسرائيل، وحالة التسليح الشاملة، وهذا يوفر ‏البيئة القوية لهذا الشمشون، ويهدم المعبد قبل أن يذهب للإنتحار.
اليوم قادة إسرائيل معرضون ‏لصدور أحكام ضدهم بالاعتقال، والأمر ليس قاصرا عليهم، بل سيشمل قادة حماس وغيرهم، ‏وهذا من شأنه أن يضع الجميع أمام هذا الخيار. وقد يزيد من هذا الخيار الدور الذي يلعبه الدين ‏وتحكمه في السياسية. حرب تحكمها السياسة والدين، كما يقول إبن خلدون: إن الفهم المغلوط ‏للسياسة يجعل من السياسى مستبداً، والفهم المملوء بالغلو لرجل الدين يجعله محرضا على التكفير، ‏وكلاهما يصنعان الدمار ويهددان العمران، وقول ونستون تشرشل: إحذروا أن يشعلها رجل دين ‏حتى ينفذها رجل سياسة.