ما وراء الموقف الأمريكي ايديولوجيا الرجل الأبيض والمشاركة في الإبادة

فبراير 21, 2024 - 11:57
ما وراء الموقف الأمريكي ايديولوجيا الرجل الأبيض والمشاركة في الإبادة

متغير اساسي اصاب الخطابين الصهيوني والغربي عامة، والأمريكي خاصة. من جهة لم يعد ينطلي على قطاعات واسعة من شعوب اوروبا وأمريكا، وخاصة قطاعات شبابية يهودية، خطاب (الضحية واللاسامية) الذي استخدم، وللحق، ببراعة طوال عقود، كخط دفاع متقدم غير قابل للمس، لتبرير الجرائم الإسرائيلية، ونزع الصفة العنصرية الاستعلائية للأيديولوجية الصهيونية. بكائيات الضحية الممارسة بشكل محترف وممنهج، على الأقل في الدعاية الرسمية، لم تعد تنفع، فالإبادة الجماعية المعززة ليس فقط بالصورة والصوت والموت والدم، بل وبقرار قضائي دولي، ناهيك عن التصريحات الفاشية العنصريةـ، فضحت تلك البكائيات وزيفها، أما رفع تهمة اللاسامية في وجه كل مَنْ يتخذ موقفاً من الممارسات الفاشية للاحتلال، فكيف لها أن تنفع إن كانت تُرفع حتى في وجه اليهود المعادين للصهيونية، والذين تزداد أصواتهم يومياً وتعلو أكثر فأكثر خاصة في الجامعات الأمريكية؟


سلوك القيادات الصهاينة وتصريحات ومواقف مسؤوليهم عرّت زيف خطابهم وذلك لعمري متغير تاريخي سيكون له تأثيره المستقبلي على مكانة قضيتنا الوطنية دولياً، وعلى شيوع مصداقية روايتنا بين شعوب العلم.
وما جرى على صعيد خطاب جرى على صعيد الخطاب الغربي، والأمريكي خصوصاً. فلم تعد تصريحات (المساعدات الإنسانية وحماية المدنيين) لتؤثر على تصاعد زخم الرفض الشعبي العالمي للموقفين الأمريكي والأوروبي، خاصة في ظل حمام الدم الذي يمارسه الكيان في القطاع، مدعوماً بشكل صريح ومعلن من الإمبرياليات الأمريكية والأوروبية، فما بدا واضحاً أمام الرأي العام هو الدعم اللوجيستي للكيان، والتغطية السياسية لحرب الإبادة التي يمارسها، فلم تعد مواقف (حماية المدنيين وإدخال المساعدات الإنسانية) لتنطلي على قطاعات شعبية تتسع يومياً في أمريكا وأوروبا.


تاييد الإبادة في رفح
في لحظ الاعداد للإبادة في رفح، والتي تتم بتاييد وتفهم أمريكي معلن وإن مموّه، تأتي التصريحات والمواقف الأمريكية، لتكرر ذات المعزوفة حول المدنيين والمساعدات. حسب تقييم الخارجية الأمريكية فإن الضربات الجوية التي شُنت فجر الاثنين الماضي على رفح، على شرف مسرحية تحرير اثنين من الأسرى، (لا تشير لإطلاق واسع النطاق لعملية عسكرية هناك) علماً ان هذه الضربات، وهي خمسون ضربة جوية، أوقعت أكثر من 100 شهيد ومئات الجرحى ودمرت مربع سكني بأكمله، فيما حين تطالب تلك الخارجية (بخطة ذات مصداقية) في رفح، فلا معنى حينها للكذب المفضوح حول رفض (عملية عسكرية موسعة وضرورة حماية المدنيين)، علماً ان مطلب (حماية المدنيين) يتكرر منذ اليوم الأول لحرب الغبادة، ومع ذلك سقط 30 ألف شهيد و70 ألف جريح ولم يتغير المطلب (بحماية المدنيين)، ولم يتوقف الجسر الجوي للدعم العسكري للكيان، ولا توقفت تغطيته سياسياً في الهيئات الدولية على جرائمه. تاييد الإبادة من جهة، والحديث عن حماية المدنيين وإدخال المساعدات من جحهة ثانية، خطاب ينبغي التوقف عنده.


منذ بداية حرب الإبادة الجماعية على شعبنا في غزة، كان الخطاب الغربي يجمع ما بدا أنه موقفين متناقضين في الخطاب، فمن جهة الدعوة لإدخال المساعدات الإنسانية وحماية المدنيين، ومن جهة ثانية الدعم غير المحدود وعلى كل الصعد لحرب الإبادة، لا بل والمشاركة فيها وفق موقفين معلنين (لا لوقف إطلاق النار ومن حق إسرائيل الدفاع عن نفسها)، فكيف سيتسنى إدخال المساعدات وحماية المدنيين مع استمرار آلة الحرب بالقصف والتقتيل الجماعي وتدمير كل مرافق الحياة وممارسة سياسة التجويع، خاصة لشمال القطاع، بكل صفاقة وعنصرية الفاشيين؟


ذلك باعتقادي تناقض شكلي تماماً، وليس أكثر من تعبير عن الصياغة المخادعة للخطاب في محاولة للتأثير على الرأي العام الشعبي، والذي تتسع مظاهر عدائيته للسياسة الأمريكية، وبغية تحسين صورة الإدارة الأمريكية، خاصة وقد بدأت السنة الانتخابية، ناهيك عن (مراعاة) شكلية لأتباعهم من الحكام العرب، ولو بخطاب (إنساني) يضحكون به على عقولهم المستعدة لتقبل ذلك أصلاً. فما الذي يكمن خلف تلك المواقف، والتي في جوهرها انحياز صريح ووقح، ومشاركة في الإبادة الجماعية؟ هل هو محض مصالح سياسية واقتصادية، أم هناك ما هو أعمق بحيث تبلغ السياسة الأمريكية والأوروبية حد تاييد إبادة جماعية، لا بل والمشاركة فيها؟


تلاقح بين مشروعين
جرت اقلام الباحثين والكتّاب على رؤية العلاقة الإسرائيلية الغربية من زاوية المصالح الاقتصادية والسياسية، وهذا تحليل لا يجانب الصواب بالتأكيد، خاصة حين يجري وصف الكيان كأداة متقدمة للامبريالية العالمة في المنطقة، أداة تحولت هي الأخرى (لإمبريالية صغرى) على حد التعبير الموفق للقائد الراحل د. حبش. ذلك الدور الوظيفي الذي يضطلع به الكيان لعب دوراً رئيساً في ذلك الإسناد غير المسبوق بل والصفيق، للكيان وحرب الإبادة التي يمارسها، لدرجة خلقت فجوة تتسع بين سياسة الإسناد تلك وشعوب أمريكا واوروبا، بحيث لم تعد الشعوب تتتحمل غرق حكامها في تأييد إبادة صريحة لشعبنا لعيون الكيان وفاشييه.
هذا الإصرار في تأييد الإبادة يتجاوز في اعتقادي حدود تلاقي المصالح السياسية والاقتصادية، ليصل لدرجة التلاقح الأيديولوجي البنيوي لمشروعين تاريخيين، مشروع الرجل الأبيض الغربي الاستعماري، والمشروع الصهيوني الاستعماري، الغربي بجغرافية نشأته، ومادته البشرية، ومنطلقاته الايديولوجية. المشروع الثاني وليد الأول ومن رحمه، ويحمل كافة سجاياه ومقولاته وثيماته ( الرسالة الحضارية) (شعب الله المختار) ( أرض الميعاد) (تحويل الصحراء لجنة) (تمدين الشعوب البربرية)، كلها مقولات وثيمات مشتركة، اسهب الباحث المتميز منير العكش في شرح حقيقة عملها وتمظهرها كحبل صري يربط بين المشروعين، الغربي الأوروبي والصهيوني.


والإبادة كمفهوم وممارسة تجاه (الآخر)، البدائي والمتخلف ابن الأدغال حسب وصف بوريل للعالم خارج أوروبا، كانت عنوان الممارسة الاستعمارية للرجل الأوروبي الأبيض في مشروعه الاستعماري في الأمريكيتين وأفريقيا وشرق آىسيا، لدرجة باتت تلك الإبادة هي العنوان الأبرز للمشروع الغربي الاستعماري، وتالياً الصهيوني الاستعماري.


وعقلية الإبادة ما زالت هي الخلفية الايديولوجية المحركة للسياسة الأوروبية والأمريكية، وتحصيل حاصل الصهيونية، ولا تنقص دلائل الدم والتصريحات. لنتذكر تصريح أورسولا رئيسة المفوضية الأوروبية في ذكرى تاسيس الكيان من أن إسرائيل حوّلت الصحراء القاحلة لجنة، ولنتذكر ايضاً التصريح الفاقع بعنصريته لمفوض الشؤون الخارجية في الاتحاد الأوروبي بوريل حول البستان الأوروبي الذي يجابه الأدغال، اي العالم. أما حين تُعلن الإدارة الأمريكية رسمياً في تعليقها على قرار محكمة العدل الدولية بأنها لا ترى مؤشرات على ممارسة الإبادة، بعد 30 الف شهيد، فهذا يكفي للوقوف على حقيقة تلك الأيديولوجيا التي تحرك تلك الإدارة، فيما تصريحهم بأن قتل المدنيين في غزة غير مقصود، فهو دلالة على ذلك المستوى الأخلاقي المتدني جداً الذي يمكن أن يبلغه العنصريون بكل اشكالهم.


الوشائج التي تحكم علاقة المشروعين العنصريين، الغربي والصهيوني، تدعمها العديد العديد من الدراسات والأبحاث والوقائع التاريخية كما المواقف والتصريحات، والتي لا يتسع المقال لسردها هنا، فمنذ نهاية القرن التاسع عشر، ومع انطلاق مأسسة الحركة الصهيونية في مؤتمر بازل وحتى اليوم، تبلورت تلك العلاقة بين المشروعين، الأمر الذي يؤشر لمدى جذريتها التي تتجاوز بتقديري حتى المصالح الاقتصادية والسياسية، لا بل أكثر: ان تلك العلاقة الأيديولوجية هي التي تشكل القاعدة الأساس لبناء شبكة العلاقات الإقتصادية والسياسية.


لا تناقض في الخطاب بين (المساعدات الإنسانية وحماية المدنيين) و( لا لوقف إطلاق النار وحق إسرائيل في الدفاع عن نفسها)، فذلك ليس أكثر من خطاب مخادع لاعتبارات سياسية ودبلوماسية ودعائية لا أكثر، فيما الحقيقة مشاركة الدول الإمبريالية في أمريكا وأوروبا في حرب الإبادة لاعتبارات أيديولوجية اساساً، وسياسية واقتصادية أيضاً.