وعد كاميرون
ورغم أن تصريحات كاميرون في بداياتها جاءت قبل يومين أمام حشد عربي في لندن، إلا أنه عاد وكرر مباشرة تلك التصريحات في مقابلة مع هيئة الإذاعة البريطانية ال"بي بي سي"، وهو ما يؤكد على صدقية هذه التصريحات والنوايا، ويضحض فكرة البعض بأن الحديث في الاجتماع المذكور إنما جاء مندفعاً أو ممهوراً بشحنة من العاطفة أمام جمهور مؤازر لفلسطين وحق أهلها في الخلاص والحرية.
وعد كاميرون الجديد أعقب رفض بريطانيا الواضح لسيطرة إسرائيل على قطاع غزة بعد الحرب باعتباره والكلام لبريطانيا، أرضاً فلسطينية محتلة، وأن المستوطنات جميعها غير شرعية. كما أعقب هذا الوعد الجديد تصريح وزير الدفاع البريطاني جرانت شابس والذي وصف فيها تصريحات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو التي رفض فيها احتمال قيام دولة فلسطينية بأنها “مخيبة للآمال”، مؤكدا التزام المملكة المتحدة تجاه حل الدولتين.
صدمة مفيدة أحدثها كاميرون بعد سلسلة مواقف تتناقض والموقف التقليدي الفعلي لبريطانيا، وكأنها عكست ضيق لندن بعنصرية نتينياهو، وضعف بايدن، واستخفاف العالم بها لعقود تحولت معها إلى لاعب ثانوي ، مكسور بالإهمال، ومنصوب بالغياب، ومبني على التجاهل والتهميش.
هذا الوعد لا يشكل طلاقاً لبريطانيا مع ماضيها الاستعماري الأليم فحسب، وإنما إقراراً صريحاً بأن السكان الأصليين والذين وصفهم بلفور في وعده المشؤوم بالأقلية، قد أثبتوا أنهم لم يكونوا أقلية، بل أصحاب حق وعناد وصبر وإقدام غير مسبوق، وأنهم هم أصحاب الأرض الحقيقين الذين لم تغرهم المنافي ولا أموال الأرض، فلم يرتحلوا حيثما كان النعيم والحياة الرغيدة، بل فضلوا النضال من أجل استعادة حقهم وإقامة دولتهم وتحقيق العدالة المسلوبة، أما من غاب منهم فقد عاد لفلسطين، ومن طرد أو هاجر قسراً يبقى قلبه معتلاً بفعل البعد عن الوطن لكنه مصر على حقه وحق ذريته بالعودة.
تصريح كاميرون الرشيق والذي قال فيه بأن خطوة الاعتراف إنما ستأتي لتعزيز فرص السلام عبر خطوات حاسمة غير قابلة للتراجع، صنعت تاريخاً وأنعشت أملاً لدى شعبنا المكلوم بالحرية والخلاص من الاحتلال الإسرائيلي الأطول في التاريخ البشري المعاصر.
لكن الأمل يكمن في أن لا يكون وعد كاميرون هذا كما وعده عام 2016م بإبقاء بريطانيا عضواً في الاتحاد الأوروبي، معززاً ذلك باستفتاء شعبي مهيب اعتقد معه بأن بريطانيا ستدعم توجهه، ليفاجئ بضربة قاضية جرت معها الرياح بما لا تشتهي السفن، وليصوت الشعب مع خروج بريطانيا آنذاك، ولتخرج بريطانيا من أوروبا ويخرج كاميرون من مقر رئيس الوزراء المعروف ب "داونينغ ستريت"، خائباً مكسوراً، ولتأتي رياح جديدة أوصلت فيما أوصلت رئيس الوزراء الحالي ريشي سوناك إلى سدة الحكم.
إذا رئيس الوزراء السابق ووزير الخارجية اليوم اللورد كاميرون ليس كما كاميرون الماضي، وبريطانيا اليوم ليست كما بريطانيا الأمس إبان عهد اللورد بلفور! الظروف والقوة والتاريخ وحتى الجغرافيا تغيرت ومعهم تغيرت مراكز القوى ومصانع السياسة ومطابخ القرار.
الأهم بالنسبة لنا أن لا يكون الوعد الجديد محطة كاميرون الخائبة الثانية، بل أن يكون ممهوراً بالنجاح ومشفوعاً بجهد ماراثوني مهم يغلق الباب على حفنة المجانين في تل أبيب ويطوي عقوداً من النكران والجحود ويصنع تاريخاً مهماً.
هذا التاريخ سيراكم على مسيرة طويلة ومشرفة للشعب الفلسطيني، ومحطات نضالية عمدت بالدم والأسر والجرح والحرمان. فهل ينجح كاميرون في مهتمه الجديدة، الأيام بيننا!