جيل ما بعد التصاريح!

أمين الحاج

ديسمبر 4, 2025 - 10:04
جيل ما بعد التصاريح!

في فلسطين، يتشكل اليوم جيل جديد، جيل، ربما لم يعرفه التاريخ الفلسطيني من قبل؛ جيل يولد في لحظة انهيار كاملة للتوازنات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، تلك التي حكمت علاقة الفلسطيني بمحتله لعقود، فالعمل داخل الخط الأخضر، رغم كل تناقضاته وقسوته، كان جزءا مركزيا من معادلة الحياة اليومية للكثيرين، ومساحة احتكاك مباشر مع بنية الاحتلال، لكنه تراجع الى حد الاختفاء، وبتوقفه، ينشأ فراغ واسع لا يملؤه الاقتصاد المحلي المشلول، ولا السلطة التي فقدت أدوات الفعل، ولا شبكات التضامن القديمة التي تآكلت بفعل التحولات والزمن.
 المسألة تتجاوز البعد المالي؛ فنحن أمام قطيعة اجتماعية تغيّر طريقة عيش الفلسطيني وتفاعله مع محيطه، فالجيل الذي عاش النكبة، بكل أهوالها، كان يعيش تحت صدمة حدث واحد حاسم، وما لبث ان شرع باعادة بناء حياته تدريجيا، كانت المتطلبات اقل بكثير، وكان الكفاف سيد الموقف، اما جيل اليوم وما يتعرض له يوميا، الى جانب قائمة متطلبات لا حد لها، جعله يعيش كارثة بلا افق، تعيد صياغة الوعي على شكل خوف ويقظة دائمين، هذه التجربة، رغم قسوتها وامتدادها، تتجاوز كل ما وثقته الذاكرة الفلسطينية سابقا.
 لكن الأخطر ان الاحتلال يتصرف وفق تصوره – الذي يراه دقيقا - حول مصادر القوة الفلسطينية، فلا يستهدف مكونات المجتمع بنفس الدرجة، فتجده يركز هجماته على الريف، وعلى البلدات والقرى التي لطالما كانت الخزان البشري التاريخي لحركات المقاومة، حتى انه حاول ويحاول طمس معالمها، وابادة سكانها، كما الحال مع المخيمات، جباليا وجنين وطولكرم وبلاطة وغيرها، البيئات التي خرّجت معظم طلائع المقاومة، لا يريد الاحتلال ان يتركها تتنفس، ولا ان تعيد انتاج طاقتها؛ الثورية والاجتماعية والاقتصادية، وهنا تتكشف النواة الصلبة لمنطق الاحتلال، ضرب المنبع اولا، واستهداف الجذور قبل الاغصان.
 في المقابل، تعيش بعض الشرائح تحت وهم ان انشغالها بالمال والأعمال سيجعلها في مأمن من إرهاب الاحتلال، تصور هش، سينهار عند اول تماس مع واقع الاحتلال، لان  الاحتلال لا يميز بين الفلسطينيين وفق أنماط حياتهم، فالتاريخ ينبئنا أن الهوية الفلسطينية هي المستهدفة، والفلسطيني، أي فلسطيني، بالنسبة له خطر محتمل، سواء كان فلاحا، تاجرا، أكاديميا، أو باحثا عن فرصة عمل، الهوية وحدها تكفي لتبرير الشبهة، والشبهة أكثر من كافية لتبرير الجريمة، و"العقاب" بلا قواعد، وهذا ما يجعل فكرة "النأي بالنفس" او "سدّ الذرائع" مجرد خرافات.
 جيل ما بعد التصاريح يدخل المشهد بلا تجارب سابقة قد تساعده على فهم حدود العلاقة مع الاحتلال، بينما جيل التصاريح وما قبله، كان يرى "القوة" من الداخل، يفهم بنيتها، ويرى الشقوق الصغيرة التي تكشف حدود تلك القوة، فيدرك ان الاحتلال ليس مطلقا، اما الجيل الجديد فسيتعامل مع قوة لا يرى منها سوى وجهها القمعي، العسكري، والرقمي، قوة تحاصر الجغرافيا، وتتحكم بالاقتصاد، وتتدخل في تفاصيل الحياة اليومية.
 نتيجة لذلك، قد تكون ولادة لوعي مختلف تماما، لا يتشكل عبر التجربة الاقتصادية، او السياسية، بل عبر الصدام المباشر، وعي، في الغالب، سينتج عنه انماط غير متوقعة من الردود، لان الشباب الذين لا يجدون في الاقتصاد ولا السياسة اي افق، سيكونون اكثر استعدادا للبحث عن افاق جديدة للعيش، واشكال مختلفة من الفعل والمقاومة.
 وبهذا المعنى، فان جيل ما بعد التصاريح ليس مجرد فئة عمرية، بل انعطافة اجتماعية وتاريخية، قد تعيد تشكيل المجتمع الفلسطيني من جذوره، وترسم ملامح علاقة جديدة مع المحتل، ومع المستقبل نفسه، والمرحلة المقبلة ستكشف ان هذا الجيل سيكون محورا لتحول لا يمكن تجاهله، ولا نسيانه.