غزة : بين المأساة الانسانية والابتزاز السياسي

أمين الحاج

نوفمبر 19, 2025 - 09:24
غزة : بين المأساة الانسانية والابتزاز السياسي

أمين الحاج

لن يكون ممكنا الجزم بأن حرب الإبادة على غزة قد انتهت حقا، فوقف عمليات القصف الواسع لم يكن سوى انتقال من طور الى طور آخر من العدوان، اكثر "هدوءا” في ظاهر المشهد، لكنه أشد قسوة من حيث تراكم معاناة الناس، فالحصار ما زال قائما بكل أثقاله، بل أشد مما كان، والدمار يلف كل زاويه، والمساعدات الانسانية لا تكفي سوى لدرء شبح المجاعة، وربما بالكاد، ومع كل منخفض تتجدد المآسي، فالخير الذي ينتظره الناس في أرجاء المعمورة، بل ويصلّون طلبا له، يتحول الى كارثه، يضاعف من تأثيره نقص الخدمات وتهاوي البنى التحتية وعجز مراكز الإيواء أمام قسوة المشهد، فما يحدث اليوم ليس اليوم التالي للحرب، بل الطور التالي لها، بطابع سياسي واقتصادي وإنساني متشابك.

 في المقابل، يملأ خطاب السلاح ساحة النقاش الدولي، وفي لبنان أيضا كما في فلسطين، فيتصدر مطلب نزع سلاح المقاومة كل نقاش حول مستقبل غزة، داخليا وخارجا، بل وصار هذا المطلب قالبا جاهزا للترديد، سواء جاء على لسان مسؤول غربي او عربي او حتى فلسطيني، دون اكتراث لواقع الغزيين وفداحة الكارثة الإنسانية، فيجري التعامل مع غزة كما لو انها مخطط هندسي على ورقه، لا شعبا حيا عاش عقودا من الاحتلال، ولا بقعه مدمره فقدت كل مقومات الحياه، ولا بشرا يصارعون للحصول على مسكن وطعام وماء قبل اي ترتيبات أمنيه او سياسيه.

 الخطط الدولية المتداولة تختزل غزة في مشروع إداري، وتنظر إليها بوصفها "مشكلة أمنية"، بينما كان الأجدر البدء بتوفير الاحتياجات الاساسية والإنسانية دون شروط سياسية، إلا أن هذا النهج يعكس رغبة واضحة في فرض رؤية تخدم أهداف الاحتلال، بعدما عجز عن تحقيقها بالنار، وهكذا يصبح مستقبل غزة مرهونا بإرادة دول لا تكترث حقا بشعب منكوب، بقدر ما تخشى من روحه المقاومه.

 ولا يحتاج الأمر الى خيال كبير لفهم حجم المأساة الإنسانية، فكيف يمكن للعالم ان يتجاهل ما كشفته "الغارديان" وما أكدته منظمات حقوقيه أخرى، عن عشرات الشهداء الذين قضوا في السجون، بعضهم تحت التعذيب او الجوع او بفعل سوء المعاملة وقسوتها، او نقص الماء والدواء؟ وكيف يغض الطرف عن مشاهد محاولات تعرف الاهالي على جثامين احبتهم بطرق بدائية، عبر حذاء او قطعه قماش، في غياب ادنى مقومات العمل الطبي والانساني المتعارف عليه عالميا؟ ومع ذلك، تجد من يخرج ليعطي دروسا في الانسانية والقانون الدولي وحقوق الانسان!

 ان السعي المحموم لنزع السلاح لا يرتبط بضخامة الترسانة العسكرية لغزة، فكلنا يعلم ان الحرب استنزفتها، بل هو مرتبط اساسا برمزيتها، وبما تمثله من اراده وقفت يوما في وجه صنم القوة، وفوق ذلك، فان نجاح هذا المسعى يعني تكريس فكرة ان لا فرصة لأي مشروع تحرر في عالم اليوم، عالم تحكمه المصالح والقوة، القوه التي ترسم حدود الممكن والممنوع، لذلك تبدو غزة اليوم في قلب معركة يدور رحاها على موائد السياسة العالمية، شرقا وغربا، لا لأنها بقعه محاصرة او لأن فيها شعبا مضطهدا، بل لأنها تذكر العالم بمعركة الخير والشر، وتجسد حقا أبلجا يواجه باطلا لجلجا، لا شرعية له، ولأنها كانت تكتنز من الطاقات ما جعل العالم في حاله إرباك وصدمة لم يعرفها او يعهدها من قبل، فغزة ليست عنوان مأساة فقط، بل عنوان اختبار سياسي وأخلاقي للعالم، ومن الواضح ان الكثيرين يفضلون إسكات هذا العنوان، ولو على حساب شعب كامل، فقط كي لا تنهض من جديد تلك الروح، التي لا تزال تقض مضاجع الغزاة.