حين تنطق الشوارع بالحق: المسيرات العالمية بوصفها ذاكرةً إنسانية تكشف زيف الاحتلال وتعيد تعريف العدالة
بقلم : د. منى أبو حمدية أكاديمية وباحثة

بقلم: د. منى أبو حمدية
أكاديمية وباحثة
لم تكن فلسطين يوما مجرّد مساحة على خريطةٍ جغرافية، بل كانت –وما زالت– بوصلة أخلاقية لضمير العالم، ومِرآةً تعكس صدق القيم الإنسانية حين تتعرّى أمام امتحان العدالة. ومع اشتداد العدوان على غزة، لم يبقَ العالم صامتًا. فقد شهدت مدن الكوكب، من لندن إلى سانتياغو، ومن جوهانسبيرغ إلى سيدني، أكبر موجة تضامن إنساني في القرن الحادي والعشرين، خرجت فيها الملايين تهتف باسم فلسطين وترفع علمها لا بوصفه شعارا سياسيا، بل رمزا كونيا للحرية وكرامة الإنسان.
لم تكن تلك المسيرات مجرد حدثٍ عابر في الذاكرة الجماعية، بل تحوّلًا نوعيا في الوعي العالمي؛ إذ أدركت الشعوب أن الوقوف مع فلسطين هو دفاعٌ عن فكرة العدالة ذاتها، وأن مواجهة الاحتلال لم تعد شأنا سياسيا محليا، بل واجبا اخلاقيا كونيا .
المسيرات العالمية وإعادة تعريف مفهوم التضامن
أعادت المسيرات العالمية رسم ملامح التضامن الإنساني، فانتقلت من الموقف السياسي التقليدي إلى موقفٍ أخلاقي جامع يتجاوز حدود الانتماءات الأيديولوجية.
لم تعد الشعارات فصائلية ولا المواقف مشروطة؛ بل توحّد المتظاهرون خلف فكرةٍ بسيطة ومطلقة: أن فلسطين هي قضية الإنسان المقهور في كل مكان.
لقد كشفت هذه المسيرات أن التضامن مع الشعب الفلسطيني ليس انحيازا سياسياً بل اصطفافٌ مع الحق في الحياة والحرية والكرامة.
وفي هذا السياق، تحوّلت شوارع العواصم الكبرى إلى فضاءاتٍ رمزية للمواطنة الكونية، تذوب فيها الفوارق القومية والدينية لصالح الإنسان بوصفه كائنا يستحق العدالة.
انكشاف السردية الإسرائيلية وتعرية خطابها الإعلامي
سعت إسرائيل، منذ قيامها، إلى تكريس صورةٍ زائفة لنفسها كـ”دولة ديمقراطية” محاطة بالعداء. غير أن هذه السردية انهارت أمام المدّ الشعبي والإعلامي الذي فضح ممارساتها الاستعمارية.
لقد تحوّلت الكاميرا إلى شاهدٍ أخلاقيٍّ، وعدسة المتظاهر إلى مرآةٍ للعالم يرى فيها الاحتلال على حقيقته المجردة.
فبينما حاولت الآلة الدعائية الإسرائيلية تبرير القتل باسم “الدفاع عن النفس”، كانت شوارع نيويورك وباريس ولندن تصرخ بلغةٍ واحدة: “من يدّعي الديمقراطية لا يقصف الأطفال!”.
وهكذا، تراجعت الأسطورة الصهيونية أمام مشهد الحقيقة الحيّة، وفقدت قدرتها على الإقناع حتى في معاقلها الغربية.
من الضمير إلى القرار: التحوّل من التعاطف إلى الضغط السياسي
لم تظلّ المسيرات فعلًا رمزيا فحسب، بل تجاوزت إلى ميدان الفعل السياسي.
فقد أجبرت هذه الحشود الحكومات الغربية على إعادة النظر في خطابها المزدوج، ودفعت برلمانات إلى مساءلة سياسات الدعم غير المشروط لإسرائيل.
تحت ضغط الشارع، تحوّل النقاش من “حق إسرائيل في الدفاع” إلى حق الفلسطيني في الحياة، ومن خطاب المظلومية الصهيونية إلى مساءلة أخلاقية لمفهوم “التحالف” ذاته.
لقد أصبح الشارع فاعلًا سياسيا رمزيا، يعبّر عن ضميرٍ جمعي عالمي بدأ يستعيد سلطته على المؤسسات التي طالما تجاهلت معاناة الفلسطينيين.
نحو اعترافٍ دولي أوسع بفلسطين كدولةٍ ذات سيادة
ساهمت موجات التضامن الشعبي في إعادة طرح قضية الاعتراف بدولة فلسطين ضمن الأجندة الدولية.
فالكثير من الدول التي التزمت الحياد أو التردد سابقا، بدأت تميل نحو الاعتراف الرسمي أو التصويت لصالح القرارات الأممية الداعمة للحق الفلسطيني.
لم يكن هذا التحوّل نتيجة ضغوطٍ دبلوماسية فحسب، بل ثمرة وعيٍ جماهيريٍّ عالميٍّ جديد يرى في الاحتلال جريمةً أخلاقية تتجاوز حدود السياسة.
لقد أثبتت هذه المسيرات أن العدالة لا تصدر عن مكاتب السياسة وحدها، بل عن إرادة الشعوب حين تستيقظ.
الإعلام الرقمي والذاكرة البصرية للمقاومة السلمية
أضفى الإعلام الرقمي بعدا جديدا على فعل التضامن؛ إذ تحوّل إلى ذاكرةٍ بصرية توثّق اللحظة الإنسانية.
لم تعد فلسطين مرهونةً بعدسات الإعلام الرسمي، بل أصبحت حاضرة في هواتف الملايين، في كل تغريدةٍ وصورةٍ ولافتة.
لقد أسقطت التكنولوجيا الاحتكار الإسرائيلي للرواية، وجعلت الحقيقة متاحة للجميع، حيث صار كل هاتفٍ في الميدان منبرا للحقيقة وموقعا للشهادة.
وهكذا تحوّلت المسيرات إلى أرشيفٍ بصري للعدالة، يؤرّخ للوعي الإنساني في زمنٍ يُكتب فيه التاريخ بالبثّ المباشر.
الأثر الثقافي والنفسي: عودة الإيمان بالإنسان
أعادت هذه المسيرات إلى الإنسان ثقته بقدرته على الفعل، وإلى الفلسطيني يقينه بأنه ليس وحيدا في معركته ضد النسيان.
لقد شعر العالم، ولو للحظة، أن العدالة ليست فكرةً مجردة، بل نبضا يسري في الشوارع والقلوب.
أما الفلسطيني، فوجد في صدى الهتافات الممتدة عبر القارات ترميما لجراح الذاكرة، وتأكيدا أن قضيته لم تمت.
وفي المعنى الرمزي الأعمق، شكّلت هذه المسيرات طقسا جماعيا للتطهّر الأخلاقي، أعاد للإنسانية وجهها المشرق وسط عالمٍ ملوّث بالحروب والمصالح.
وفي الختام؛ لم تكن المسيرات العالمية تضامنا عابرا، بل ولادة جديدة للضمير الإنساني.
فقد أسقطت الأقنعة عن وجه الاحتلال، وكشفت هشاشة الرواية التي طالما خدعت العالم.
كما أكدت أن العدالة ليست قرارا أمميا، بل فعلًا إنسانيا متجددا ينبع من الشوارع التي تهتف باسم الحق.
وحين يهتف العالم باسم فلسطين، فهو لا يهتف لحركةٍ أو سلاح، بل لإنسانٍ يُقاوم بالموقف والكرامة، ولأرضٍ تنزف نورا لا دما.
إنها فلسطين – ميزان العدالة وضمير العالم، وحكاية الإنسان الذي، كلما حاولوا إسكات صوته، صرخ الكون باسمه.