جثتي تلقي خطابًا في الأمم المتحدة

جثتي تلقي خطابًا في الأمم المتحدة
عيسى قراقع
حضرات السادة والسيدات:
لا أعرف إن كنتم تسمعونني الآن، لكنني سأتحدث، ولو بصوت جثتي، أنا لست وفدًا دبلوماسيًا، ولا ممثلًا لدولةٍ مستقلة، أنا جسد هشّ، مُتصدّع من القصف، متيبس تحت الأنقاض، أنا ضحية أُخرجت من تحت الركام قبل يومين، أو ربما قبل أسبوع… لم أعد أذكر.
أقف أمامكم اليوم جثةً، لأن الحيّ في بلادي لا يُسمع، ولأن الميت، حين لا يبقى من العالم سواه، يُمنح أخيرًا منصة.
هل هذا هو ثمن الاعتراف؟ أن نموت أولًا، ثم يسمح لنا بالكلام ؟
اقف اليوم امامكم، لاتحدث باسم كل الجثث التي هرستها الابادة المستمرة منذ النكبة حتى الان، باسم إنسانية تنزف، وشهداء تتطاير أرواحهم في الغبار.
هذا المؤتمر لا يعقد من فراغ، بل يعقد فوق خارطة ملطخة بالدماء، وتاريخ مثقل بالمجازر، وطوال هذه السنوات الدامية ، وانتم تجتمعون، تتخذون القرارات، ومع كل قرار تزداد اعدادنا تحت التراب، اتمنى هذه المرة أن تسمعوا من الضحايا الاموات وليس الاحياء.
تسألون عن الدولة الفلسطينية، ها هي، بكل وضوح:
في كل بيت قُصف، في كل ذكرى محيت، في كل شجرة زيتون اقتلعتها الجرافات، في كل طفل مات قبل أن يتعلم نطق اسمه، وفي كل أم دفنت أبناءها بلا أكفان، في كل عائلة مسحت من الوجود، واجتمعت في السماء، في كل خيمة نحملها على الظهر، نغرسها في البحر او في الرمل ولا نرحل، في كل زنزانة توحشت بالتعذيب والاعدامات، في مطلع كل فجر ، يؤذن للصلاة، ويقرع الاجراس.
تتحدثون عن الاعتراف، لكن، عن أي شيء تعترفون الآن؟ أتعترفون بشعب يُباد؟ أم بدولة تُنحر كل يوم، ثم يُقترح الاعتراف بها كـ"حل وسط"؟ أو كـ موت مؤجل.
أتعرفون ما يُرعب؟ أن القاتل لا يخاف من إدانتكم، لكنه يخشى كاميرا هاتف صغيرة بيد طفل يلفظ أنفاسه، لأنها تُفضح أكثر مما تفعل خطاباتكم الطويلة.
أقولها الآن، من جثتي هذه، التي لا تطلب شيئًا إلا أن تتوقفوا عن تصدير الأسلحة، وعن إرسال صواريخكم مع بيانات التعاطف.
لسنا بحاجة لمؤتمرات تُخفف من غضب شعوبكم، بل لحياة لا تحتاج إلى إذنٍ من أحد.
لا أريد دولة تولد على جثتي، ولا علماً يُرفع فوق مقبرة جماعية ويُقال: "ها قد تحقق الحلم"، لسنا ورقة في دفاتر السياسة، ولسنا مادة تفاوضية، ولا مختبرا لفحص قدرتنا على تحمل قنابلكم الذكية، ولا ظلالا تبحثون عن وجوده في القانون الدولي، والذي مازال يصرخ منذ الحرب العالمية الثانية.
نحن شعب، كنتم تسمّونه "القضية"، لكنه صار، في موتنا الجماعي، مرآة لإنسانيتكم المتصدعة.
ايتها السيدات والسادة:
كيف تتحدثون عن قيم انسانية، وتصدرون بيانات الإدانة في النهار، والقذائف في الليل؟ اي عدالة هذه التي تقاس بلون العيون؟ واي شرعية دولية هذه التي تعجز عن ادخال كيس طحين إلى غزة التي تحولت الى هيكل عظمي، من لا يستطيع ادخال رغيف خبز إلى غزة، هل يستطيع أن يعطيني دولة؟
هل تسمعون صوتي الآن، هل تسمعني جثتي وأنتم تنظرون إلى السقف؟ أم تنتظرون أن يُترجم هذا الخطاب كي تفهموه؟ انا ميت، والفرق بيني وبينكم أنني اتكلم بلسان الموت، وانتم تتكلمون بلسان الصمت.
ايها العالم:
في كل وقت تاخر، ثمة حياة تزهق، وثمة بيت يمحى من الوجود، فهل تنتظرون حتى لا يبقى هناك من يمثل فلسطين كي تعترفوا بها؟
جثتي تقول لكم:
لانريد دولة مقيدة بالحواجز والمستوطنات والمعسكرات، تولد على ورق الخطب والبيانات، بينما يذبح شعبها أمام شاشات العالم.
نريد دولة لا تكون مجرد تعزية أممية في جنازة صاخبة، نريد دولة حقيقية من لحم ودم وسيادة وتراب، دولة لا تمنح مقابل سجن كبير بقيود غير مرئية.
دولة تفكك الاستعمار، ولا تقايض بحق العودة، أن يكون لفلسطين أرض لا تقصف، وسماء لا تخترق، ومستقبل لا يقبر، فلا دولة حقيقية بدون حرية.
لو أردتم أن يكون لنا دولة، تعالوا انتشلوني من تحت الطمم والجدران، افتحوا القبر، واخرجوني من النسيان.
يا اصحاب القرار:
لا نريد "اعترافًا" يُغطّي القتل، ويكون قناعا للجلاد، ولا دولة تُمنح كرشوة أخلاقية، لا نريد اعترافا يجرم الضحية، ويمنح القاتل شرعية، نريد فقط ما لا يُمنح لجثث: الحق في الحياة.
انا جثة، ولكنني أرى جثثا كثيرة امامي، جثثا بملابس جميلة، تعيش في غيبوبة، تحمل الحياة بدون فعالية، تموت الف مرة دون أن تموت، نحن هنا لا لنشهد ميلاد دولة، بل لنوثق جنازة مفتوحة.
حضرات السادة:
اصحاب المعاطف الرمادية والربطات الرسمية ، احييكم، لا لأجل دوركم، بل لأجل الغائب في حضوركم: العدل.
فلسطين تلك التي تتحدثون عنها كما لو كانت فكرة في دفتر، هي جسد حي، يقصف الان.
في اللحظة التي نتبادل فيها الخطابات، تحرق غزة وتطحن، ويعاد تدويرها وصهرها بتبريرات تفوح منها رائحة لحم بشري.
هل جربتهم أن تتحدثوا عن الحق بينما البارود يملأ فم الكلمات؟ تعترفون بدولة ، لكنكم لا تحمونها، تقرون بالحق، لكنكم لا تمنحونه القوة، تذرفون الدموع، ثم تبيعون السلاح، اليست هذه هي السخرية السوداء، حين يتلبس الظلم هيئة العدالة؟
جثتي تقول لكم: لو سكت العالم، وأكمل الفاشيون دفننا عميقا في الغياب، ستبقى فلسطين تتكلم في الحياة والممات، حتى لوكان لسانها من حجر.
جثتي المتفحمة تقول لكم: فلسطين ليست بندا في الأجندة ، بل جرحا في قلب العالم، والاعتراف بها هو اعترافا متأخرا بعارنا الجماعي، اعترافا بأننا فشلنا كحضارة، كامم، كافراد، في أن نكون بشرا قبل أن نكون ممثلين.
اقولها : لا معنى لاي اعتراف من قبلكم إن لم يكن اول واجباتكم وقف الابادة، ولا قيمة لاي شرعية دولية، إن كانت تمنح للقاتل، وتناقش الضحية.
في الختام:
لا نطلب منكم كلمات جديدة، بل وجوها لا تنكسر حين تنظر في المرآة، نطلب منكم لا الاعتراف فقط، وانما أن تجعلوا لهذا الاعتراف سقفا يحمي، وارضا تبنى، وعدالة تسترد.
شكراً لكم، من تحت الركام، من هذا الجسد المنكوب، من جثتي التي تُلقي عليكم السلام، ولي العزاء.