"زياد جيوسي ... غياب الحبر الذي قاوم النسيان "

بقلم د. منى أبو حمدية ـ فلسطين

سبتمبر 22, 2025 - 08:31
"زياد جيوسي ... غياب الحبر الذي قاوم النسيان "

"زياد جيوسي ... غياب الحبر الذي قاوم النسيان "

بقلم د. منى أبو حمدية ـ فلسطين

 

حين يرحل الكبار، لا ينطفئ الحبر فقط، بل يخفت صدى الكلمات في ذاكرة المكان. رحل الأديب والكاتب الفلسطيني زياد جيوسي، تاركاً وراءه سطوراً معلّقة على جدار الوطن، شاهدةً على شغفه بالأرض والإنسان، وعلى صدقه في مقاومة النسيان.

 

جذور البداية:

 

ينحدر زياد جيوسي من بلدة جيوس قضاء قلقيلية في الضفة الغربية، البلدة الصغيرة التي تفيض بعبق الزيتون وظلال التين، وتحمل في حجارتها حكايات الصمود. غير أنّ ميلاده كان بعيدًا عن مسقط الجذور، إذ وُلد عام 1955م في مدينة الزرقاء بالأردن، حيث فتحت الغربة المبكرة أمامه باب الوعي على معنى الوطن المفقود. في بيئةٍ مشبعةٍ بالحنين والذاكرة الفلسطينية، كبر وهو يستمع إلى روايات الأهل عن الأرض التي لا تغيب عن القلب مهما ابتعدت المسافة. ومن تلك النشأة الممزوجة بين أصالة الجذور ووجع الشتات، تفتّحت موهبته الأدبية، ليحمل قلمه منذ البدايات بوصفه خندقًا آخر من خنادق المقاومة، وحارسًا لذاكرة لا تنطفئ.

 

إصداراته وإرثه المكتوب:

 

ترك زياد جيوسي وراءه مكتبةً نابضة بالحياة، تنبض بتنوعٍ قلّ أن يجتمع في قلم واحد. ففي كتبه الورقية تجلت رؤاه النقدية والإبداعية؛ من فضاءات قزح/ قراءات نقدية إلى أطياف متمردة وأحلام عمانية، ومن ياسمينات باسمة إلى رؤى في فضاءات الفن التشكيلي وعالمة العبدلات: مسيرة فن وإبداع، حيث كان يعانق الكلمة بالفن ويجعل من النقد نافذة على الجمال. ولم يكن عطاؤه متوقفًا عند ما صدر، بل ظلّ يحضّر لأعمال تحت الطباعة مثل صباحكم أجمل: رام الله وأحلام فوق الغيوم: قراءات نقدية في الرواية والشعر والسرد، وكأنّه كان يودعنا بوعدٍ جديد مع الكتابة لم يمهله القدر لإتمامه.

 

وفي فضاء العالم الرقمي، امتدت تجربته إلى سلسلة بوح الأمكنة التي حملتنا معه في جولاتٍ عبر فلسطين والأردن والعالم العربي وأوروبا، كاشفًا عن وجوه المدن وأسرار الأمكنة بروح العاشق الذي يرى المكان نصًا مفتوحًا. وحتى حين كان يفكر في المستقبل، كان يخطّ ملامح كتب تحت الإعداد مثل مداي أنتِ والوطن ومسارات مبللة: قراءات في السينما الفلسطينية، مؤكّدًا أن قلمه لم يعرف السكون.

 

ولم يقف إرثه عند حدود الأدب، فقد انشغل مبكرًا بقضايا الفكر والمجتمع، فكتب دراسات رصينة منذ سبعينيات القرن الماضي؛ عن الهجرة وتأثيرها على الواقع الزراعي في الأردن، وعن أزمة المياه في الشرق الأوسط، وعن العلاقة الكفاحية بين الشعبين الأردني والفلسطيني في الفترة ما بين 1939 و1986، فضلًا عن أبحاث متخصصة في أوضاع اللاجئين بالمخيمات الأردنية.

 

إن هذا التنوع في الكتابة – بين النقد والإبداع، بين البحث والرواية، بين الورق والإلكترون – يرسّخ صورة زياد جيوسي ككاتبٍ متعدّد الوجوه، استطاع أن يجعل من قلمه جسراً بين الأدب والفكر، وبين فلسطين والإنسانية كلها.

 

الأدب والتراث والتاريخ: مقاومة الكلمة الفلسطينية:

 

لم يكن زياد جيوسي مجرد كاتب يسرد الوجع، بل كان مقاوماً بالكلمة والذاكرة. رأى في الأدب خندقاً مفتوحاً للدفاع عن فلسطين، وفي الكلمة سلاحاً يوازي البندقية في قدرتها على تثبيت الحقّ في الوعي والوجدان. لذلك لم يكتف بالكتابة وحدها، بل حمل صوته في ندواتٍ تراثية وثقافية ظلّ يقدمها على امتداد سنوات، ليعرّف الأجيال بكنوز فلسطين المادية واللامادية.

 

كان يحكي عن البيوت العتيقة، والبوابات الحجرية، والمقامات والأضرحة، والطرز العمرانية القديمة، كما كان يغوص في تفاصيل الحكاية الشعبية والزيّ الفلسطيني وأغاني الفلاحين، مؤمناً أن كل ذلك جزء لا يتجزأ من هوية الوطن. ومن خلال محاضراته وندواته، كان يُعيد وصل الحاضر بالماضي، ويُذكّر بأن التراث ليس مجرد ذاكرة ساكنة، بل روح حيّة ومكوّن جوهري من مكوّنات المقاومة الثقافية.

 

لقد جعل من قلمه وصوته أداة لفضح محاولات الطمس، وصار حضوره الثقافي جزءاً من المعركة المستمرة لحفظ فلسطين في النصوص والذاكرة، ليبقى الأدب عنده فعلاً مقاوماً لا يعرف الانكسار.

 

أثره في المشهد الأدبي الفلسطيني:

 

على مدى سنوات، ظل جيوسي صوتاً حاضراً في الصحف والمجلات والمواقع الثقافية، ناقداً ومحاوراً وشاهداً، قريباً من الناس، يكتب عن معاناتهم اليومية ويحوّلها إلى نص أدبي ينضح بالحزن والجمال في آن واحد. وقد اعتُبر من أبرز الأقلام التي حملت مشروعاً أدبياً وطنياً، إذ نسج نصوصاً تتكئ على الأدب المقاوم وتؤسس لذاكرة جمعية تحفظ فلسطين من الذوبان.

 

ولم يكن تميّزه محصوراً في الكتابة وحدها، بل تُوِّج عطاؤه بالعديد من التكريمات التي عكست تقدير المجتمع الفلسطيني لمساهماته في توثيق التراث والمكان والتاريخ. فقد منحته العديد من الدروع والشهادات التقديرية والميداليات من مؤسسات رسمية وأهلية، ومنها وزارة الثقافة الفلسطينية، وشهادتي تقدير وميدالية التميّز من مديرية تدريب قوات الأمن الوطني في أريحا. كما كرّمته مؤسسات ثقافية وتعليمية وأهلية، مثل مركز محمود درويش في جنين، وبلدية اللبن الشرقية وبلدية رام الله في حفل تكريمي كبير، ومكتبة عبد الله بن عباس في نابلس، ومدارس اتحاد كفر زيباد وكفر عبوش/ طولكرم، بالإضافة إلى مؤسسات أخرى في فلسطين والأردن ودمشق.

 

هذه التكريمات لم تكن مجرد شعارات أو دلالات رسمية، بل كانت انعكاساً حيّاً لمكانته كشاهد على الهوية، وكمُحافظ على ذاكرة وطن، وسفير للكلمة الفلسطينية في ميادين الأدب والتراث والثقافة.

 

رثاء الختام:

 

برحيل زياد جيوسي، رحلت مكتبة كاملة، وغاب قلم كان يصرّ على الكتابة رغم كل الخيبات، وغاب صوتٌ كان يُعيد إلى الكلمات معنى الصمود والأمل، وغاب شهيدٌ آخر للكلمة الفلسطينية. فلسطين اليوم فقدت واحداً من أبرز حراس ذاكرة الوطن، وفقدت من يُحيي تراثها ويجعله حيّاً في نصوصه، ليبقى مستيقظاً في وجدان الأجيال القادمة.

 

إن رحيله ليس مجرد فقدان كاتب، بل هو فراغٌ ثقافي وفكري هائل في المشهد الأدبي الفلسطيني، فراغ لا يمكن سدّه بسهولة، فقد كان من يعرف كيف يحوّل الألم إلى نص ينبض بالحياة، وكيف يحوّل التاريخ إلى مرآة يراها كل قارئ ويشعر بها في أعماقه. كان شاهدًا على الحكاية الفلسطينية، وموثقًا لتراثها وهويتها، وصوتًا لا يقبل أن يُطمس أو يُنسى.

 

اليوم، تئن الكلمات في الكتابات الفلسطينية وكأنها تعرف أن من كان يربطها بالتراث والتاريخ والهوية قد غاب، وأن المشهد الأدبي فقد واحدة من أعمدة قوته وصدقه. وستظل نصوصه شاهدةً على فلسطين الحية، على أحلامها وأوجاعها، وعلى روح كاتبٍ عاش من أجل الكلمة، وكافح في سبيل أن تبقى فلسطين حاضرة في ذاكرة الإنسانية كلها.

 

سلامٌ على روحك يا زياد، أيها المارّ في النصوص كنسمةٍ من زيتون فلسطين، سلام على قلمٍ كان يحمل الوطن في ضلوعه، وعلى روحٍ لم تعرف الانكسار. ستبقى كلماتك نبراساً في ليلنا الطويل، وستظل فلسطين التي أحببتها تسكن بين دفّات كتبك، كما سكنت بين ضلوعك، وستبقى ذكراك حية في كل بيت وكل حجرة وكل قلب فلسطيني يعرف قيمة الكلمة وأثرها الخالد.