القاعة الخاوية.. انعكاس تراجع شرعية الاحتلال في العالم

بقلم: د. منى أبو حمدية أكاديمية وباحثة

سبتمبر 27, 2025 - 08:17
القاعة الخاوية.. انعكاس تراجع شرعية الاحتلال في العالم

القاعة الخاوية.. انعكاس تراجع شرعية الاحتلال في العالم

بقلم: د. منى أبو حمدية

أكاديمية وباحثة

لطالما مثّلت الجمعية العامة للأمم المتحدة مسرحاً رمزياً لقياس التوازنات و الاصطفافات في النظام الدولي، حيث تُقرأ الخطابات من زاويتين: ما يُقال من على المنبر، وما تعكسه ردود فعل الحضور من دلالات سياسية وأخلاقية.

 من هنا، فإن مشهد بنيامين نتنياهو وهو يخاطب قاعة شبه فارغة لا يمكن اعتباره مجرد تفصيل "بروتوكولي"، بل علامة فارقة تعكس تحوّلاً في نظرة المجتمع الدولي لإسرائيل، وتراجع قدرتها على فرض روايتها.

هذا المشهد يُثير إشكالية محورية: إلى أي مدى يُمثل الفراغ في القاعة مؤشراً على عزلة دبلوماسية (متنامية) للاحتلال، وتعبيراً عن فقدان شرعيته الدولية والأخلاقية؟ وما الدور الذي تلعبه الديناميات الجديدة، كالرأي العام العالمي وحركات المجتمع المدني، في تكريس هذه العزلة وتحويلها من مجرد موقف رمزي إلى مسار سياسي ملموس؟

تراجع الشرعية الدولية

إن غياب الوفود لم يكن غياباً جسدياً فقط، بل كان إعلاناً ضمنياً عن رفض منح الاحتلال شرعية جديدة. فمنذ عقود، سعت إسرائيل إلى تصوير نفسها كدولة طبيعية في المنظومة الدولية، لكن الحرب على غزة وما رافقها من مجازر غير مسبوقة قوّضت هذا الخطاب. فالشرعية لم تعد تُمنح عبر التحالفات العسكرية أو الاعترافات الرسمية فحسب، بل تقاس بمدى استعداد العالم للإصغاء، وهو ما لم يحدث في خطاب نتنياهو الأخير.

الاحتجاج الصامت كأداة دبلوماسية

مقاطعة الخطاب شكل من أشكال (الدبلوماسية الرمزية) حيث تحلّ الإشارة محل التصريح. هذه الاستراتيجية، المتمثلة في ترك المقاعد فارغة، أبلغ من أي بيان مكتوب. فهي تحرم نتنياهو من أهم ما يسعى إليه: المنبر والشرعية.

فالقاعة الخاوية تتحول إلى رسالة جماعية تعكس موقفاً مفاده "أن العالم لم يعد مستعداً للإصغاء لتبريرات الاحتلال".

 فقدان الرواية الإسرائيلية تأثيرها السابق

لطالما أسست إسرائيل سرديتها على ثنائية ( الأمن ومحاربة الإرهاب)، لكن صور الدمار والجثث في غزة جعلت هذه السردية متهافتة أمام الرأي العام الدولي. إن تجاهل خطاب نتنياهو لا يعكس فقط فتور الاهتمام، بل يشير إلى انهيار الثقة بروايته، مقابل صعود السردية الفلسطينية التي تستند إلى معاناة إنسانية حقيقية وحق تاريخي ثابت.

رمزية العزلة السياسية

القاعة الخاوية هي تجسيد بصري لعزلة سياسية متزايدة وتتفاقم يومياً. إسرائيل لم تعد "الدولة الاستثنائية" في المخيلة الدولية، بل أصبحت تُرى كقوة استعمارية تنتهك القيم التي تأسس عليها النظام الدولي بعد الحرب العالمية الثانية. هذه العزلة الرمزية مرشحة للتحول إلى عزلة سياسية أوسع، مع استمرار الاحتلال في تحدي القانون الدولي، الأمر الذي قد يضعها في مصاف الدول "المنبوذة أو الخاضعة للعقوبات".

 دور الرأي العام العالمي ومنظمات المجتمع المدني

ما يعزز هذا التحول أن العزلة لم تعد حكراً على الحكومات، بل باتت مدفوعة أيضاً بديناميات الرأي العام العالمي. فقد لعبت وسائل الإعلام الحديثة، ومنصات التواصل الاجتماعي، ومنظمات حقوق الإنسان، "دوراً محورياً " في فضح جرائم الاحتلال وكشف التناقض بين خطاب إسرائيل وواقعها على الأرض.

إن الضغوط الشعبية في العواصم الغربية، والتظاهرات الحاشدة المؤيدة لفلسطين، جعلت الوفود الدبلوماسية أكثر حذراً في إظهار أي شكل من أشكال الدعم لنتنياهو. ومن هنا، فإن القاعة الفارغة لم تكن قراراً رسمياً فحسب، بل كانت انعكاساً لصوت جماهيري عالمي يفرض نفسه على صانعي القرار. هذا يعني أن العزلة الإسرائيلية لم تعد نتاجاً للسياسة العليا فقط، بل أيضاً نتيجة لتنامي "قوة المجتمع المدني العالمي" الذي صار يفرض أجندته على الطاولة الدبلوماسية.

اخيرا .. إن مشهد نتنياهو أمام قاعة شبه فارغة يتجاوز كونه حادثة بروتوكولية ليغدو تجسيداً لتحوّل عميق في موقع إسرائيل داخل النظام الدولي. لقد دلّ على تراجع الشرعية السياسية والأخلاقية للاحتلال، وعلى صعود أشكال جديدة من الاحتجاج الصامت والدبلوماسية الرمزية. والأهم أنه كشف عن دور متعاظم للرأي العام العالمي ومنظمات المجتمع المدني في إعادة تشكيل الموقف الدولي من إسرائيل. وهكذا، فإن القاعة الخاوية لم تكن فراغاً بصرياً، بل امتلأت بمعنى سياسي وأخلاقي كثيف: العالم بات يرى الاحتلال على حقيقته، ويعلن عزلة نتنياهو حتى وهو يقف في قلب أكثر المنابر الدولية رسمية.