بين بلفور وستارمر: قرنٌ من الدم يكتب اعترافه الأخير.
بقلم أحمد دخيل:

بين بلفور وستارمر: قرنٌ من الدم يكتب اعترافه الأخير.
بقلم أحمد دخيل:
منذ أن خطّ بلفور الوعد الثقيل على الورق، لم تزل حبره يسقط كطعناتٍ في صدر فلسطين.
مجرد وعد، فقط جملة من جمل السياسة، أصبح قرناً من التشريد والجراح والمخيمات، ولا يزال مخيمي شاهد من شواهدها. كانت بريطانيا، في ذلك اليوم، تلفّ القلم بأصابعٍ باردة، وتمزّق الأرض كما لو كانت قصاصة على مشرحة إمبراطورية. ومنذ ذلك الوقت، ظلّ الفلسطيني يرفع الورقة الأخرى، الورقة الممزقة، ورقة الحق التي لم ولن تبهت، مهما توالت الجراح وتغيّرت خرائط الاحتلال.
واليوم، تأتي الاعترافات المتوالية، وقد وعدت فرنسا ودول أخرى بالاعتراف عما قريب.
تتابع الدول المعترفة كأنها ماءٌ جديد يتدفّق في نهرٍ ظمِئ.
من كندا وأستراليا والبرتغال وبريطانيا نفسها التي طواها زمنها الطويل، لتلفظ جلدها معلنةً أخيراً أن للفلسطيني دولة، وأن دماء فلسطين لم تعد أرقاماً في نشرات الأخبار، إنما جراح تنزف على مرأى العالم.
ستارمر، وهو يعلن اعترافه، بدا كأنه ينزع عن كتف بريطانيا معطف الغبار الإمبراطوري، ويسترجع شيئاً من الكرامة التي لوّثها وعد بلفور.
بين الصكين، صك الوعد وثك الاعتراف، مسيرة مئة عام من الدم والنفي والانتظار.
غير أن الاعتراف وحده غير كافٍ. فكيف يُرفرف العلم في نيويورك أو بروكسل فيما الدخان ما زال يخنق رئة غزة؟ كيف يُكتب اسم فلسطين في وثائق الأمم، فيما الأطفال يُنتشلون من تحت الأنقاض؟
الاعتراف مطلبٌ قانوني وإنساني، أجل، لكنه يصير بلا روح إن لم يتم إقرانه بردع العدوان، ووقف نزيف الدم الذي يُحوّل الاعتراف إلى ورقة يتيمة لا تسند حياة ولا تحمي طفلاً.
إن الاعتراف، حتى يكون صادقاً، يجب أن يكون أول لا آخر: بداية لمسارٍ يوقف الحرب، يكسر الحصار، يُرجع للشعب الفلسطيني الحق في الحياة قبل الحق في العلم والنشيد.
ولعل هذه الخطوة تعيد للأذهان أن منظمة التحرير الفلسطينية، بما حملت من تضحيات وجهود، واشتغال قيادتها بالسياسة الواقعية، إنما فتحت الطريق لهذا الاعتراف، وصانت الهوية من الاندثار، وأبقت القضية حيّة في المحافل الدولية.
ومع كل هذا، يبقى السؤال موجهاً إلى الولايات المتحدة: إلى متى يستمر هذا الصلف في التنكّر؟ إذا كان الإنكار قد مات في لندن، ألا يجدر بواشنطن أن تمعن النظر أخيراً في الحقيقة للكفّ عن رعاية آلة الحرب؟
اليوم، الكون يسجل اعترافاً متأخراً، لكنه مهم وضروري.
العالم يضع طوبةً صغيرةً في جدار العدالة العالي. وبين بلفور وستارمر، بين الوعد والاعتراف، تمتد مسافة قرنٍ من ألمٍ عظيم.
غير أن طراوة الدم تذكّرنا بأن الاعتراف لا يكتمل إلا إذا انقلب إلى فعل ينهي العدوان. وهكذا، يكتب قرن الدم اعترافه الأخير، لا بالحبر وحده، إنما بصرخة الحياة المستحقة لشعب يستحق.