صناعة السلام بمواجهة السرديات الكاذبة

أغسطس 6, 2025 - 09:27
صناعة السلام بمواجهة السرديات الكاذبة

جيمس زغبي

يعتمد فهمُنا لمعنى حدث تاريخي على عاملين. الأول هو ما نختار تحديده كنقطة انطلاق للحدث. والثاني هو العدسة التي ننظر من خلالها إليه. قد يبدو هذا بديهيا، لكنه للأسف ليس كذلك، وعدم الاعتراف به أو فهمه يؤدي إلى نتائج وخيمة، سواء في السياسات العامة أو في العلاقات الشخصية.

يمكن تجاهل هذه الحقيقة نتيجة عدم التفكير بشكل كافٍ، أو التغاضي عن التحيزات الشخصية، أو الجهل المحض. وفي أحيانٍ أخرى، قد يكون هناك نية خبيثة، تتضمن محاولات متعمدة لإخفاء ما يُعرف بأنه من المقدمات الحقيقية للحدث، لأسباب سياسية أو شخصية.

قبل أن أتناول القضية التي دفعتني لكتابة هذا المقال، أود أن أشارك مثالاً. قال الكوميدي «ديك جريجوري» ذات مرة: «لم يكتشف كولومبوس أميركا، لأنها لم تكن ضائعة». تبدو عبارته بسيطة، لكنها عند التأمل تكشف حقائق أعمق.

القول إن «كولومبوس اكتشف أميركا» يمحو تاريخ وحضارة ومساهمات الشعوب الأصلية التي كانت تسكن الأراضي التي أطلق عليها الأوروبيون اسم «العالم الجديد». حتى مصطلح «العالم الجديد» كان قناعاً رقيقاً لفهمهم الخاص بهم ونيّتهم الاستعمارية. «لقد اكتشفنا هذه الأراضي، وهي لنا لنأخذها، ونسميها، ونستغلها». 

كان التاريخ الأميركي الذي تعلمناه في المدارس امتداداً للتاريخ الأوروبي. بدأ مع كولومبوس، ثم الإسبان والبريطانيين والفرنسيين المستعمرين، وانتهى بالحرب الثورية ونشأة الولايات المتحدة الأميركية. وتمت معاملة الشعوب الأصلية على أنها شخصيات ثانوية في هذه القصة- أحياناً مجرد حاشية، وأحياناً كعقبة مزعجة.

هذا السرد لتاريخ أميركا كان نتيجة لاختيار كولومبوس كنقطة بداية، واستخدام عدسة أوروبية مركزية لا ترى الشعوب الأصلية ككائنات بشرية متساوية، وبالتالي لا تستحق أن تكتب تاريخها أو تبقى على أرضها. فتم طردهم و/أو ذبحهم، وتجاهلت إنسانيتهم، وتم تبرير معاملتهم لأنهم كانوا أقل قيمة من الأوروبيين الذين حلو محلهم.

هذه التأملات أثارتها في نفسي الطريقة التي يتم بها تناول حرب إسرائيل على غزة في الإعلام والنقاشات في الأوساط السياسية. يبدو أن الصحفيين الأميركيين مُجبرون على تضمين عبارة في تقاريرهم تقول: «بدأت الأعمال العدائية في السابع من أكتوبر 2023، عندما هاجم مسلحو حماس إسرائيل، مما أسفر عن مقتل 1200 شخص واحتجاز 250 رهينة». ليست مصادفة أن هذه العبارة (أو شيء قريب منها) تظهر في كل تقرير أميركي مطبوع تقريباً.

علينا جميعاً أن نتفق على أن ما حدث في 7 أكتوبر كان صادماً للإسرائيليين. لقد كان اختراقاً لأمنهم، وارتُكبت خلاله فظائع مروّعة ومدانة على يد حماس وآخرين شاركوا في الهجوم. ولكن التاريخ لم يبدأ أو ينتهي في السابع من أكتوبر.

تذكّروا أن مستشار الأمن القومي للرئيس بايدن قال قبل أسابيع فقط من هجوم حماس، إن «الشرق الأوسط هو في أكثر حالاته هدوءاً منذ سنوات». هذه العبارة اختزلت واقع الفلسطينيين، وأوضحت التحيز الذي ينظر به إلى المنطقة. فقد تجاهل الحصار الاقتصادي المستمر على غزة (الذي جعل الفلسطينيين معتمدين بشكل متزايد على إسرائيل أو حماس في معيشتهم)، وتجاهل كذلك تصاعد عنف المستوطنين، وتوسيع المستوطنات، ومصادرة الأراضي في الضفة الغربية والقدس الشرقية.

بعد أسابيع قليلة من 7 أكتوبر، التقيت هذا المستشار نفسه، واستمعت إليه وهو يصف ألم وخوف الإسرائيليين، وكيف أن هذا الحدث أيقظ لديهم صدمات تاريخهم. أخبرته أنني أتفهم ذلك تماماً، واتفق معه في أن «حماس» تستحق الإدانة لما قامت به. لكنني حذرته في الوقت نفسه من تجاهل صدمة الفلسطينيين، وآلامهم، ومخاوفهم، وتاريخهم الطويل من التهجير. لكنه غضب، ورفض تعليقي قائلاً، إنه «تَذرُع بماذا عن…». (محاولة للتشكيك).

ومع مرور الأسابيع والأشهر، كلما كتبت تعليقاً عن: ارتفاع أعداد الضحايا المدنيين الفلسطينيين، أو قصف المستشفيات، أو منع الماء والغذاء والدواء والكهرباء، أو التدمير المتعمد لأكثر من 70% من مباني غزة، أو التهجير القسري المتكرر للعائلات- كانت الردود دائماً: «حماس هي من بدأت»، «ماذا عن الرهائن؟»، أو ما هو أسوأ. بمعنى آخر، كانت حياة الإسرائيليين هي كل ما يهم. وأصبحت الرواية الإسرائيلية هي الرواية الوحيدة المقبولة. وبما أن القصة بدأت في 7 أكتوبر، فإن ما تلا ذلك كان مجرد رد فعل مبرر.

لطالما كانت قدرة الإسرائيليين على التحكم في الرواية سمة من سمات هذا الصراع. كانوا يقولون: «وعد بلفور منح إسرائيل حقاً قانونياً في فلسطين»، أو «في عام 1948، هاجمت إسرائيل الصغيرة كل الجيوش العربية المحيطة»، أو «في 1967 كانت إسرائيل تدافع عن نفسها فقط». كل هذه «نقاط البداية» التي تضعها الرواية الإسرائيلية هي محض خيال، وتتجاهل كل ما سبقها، والقصص التي ترويها لا تُرى إلا من خلال عدسة متحيزة لمن فرضوها.

هذه المشكلة المتعلقة بالسرديات الزائفة المستندة إلى تواريخ متحيزة ليست مقتصرة على إسرائيل أو الولايات المتحدة فقط. بل إنها للأسف شائعة جداً، لا سيما في حالات الصراع. عندما يكون أولئك الذين يسعون لحل النزاع أسرى لتعريفات ورؤية طرف واحد، فإنهم يزرعون بذور التوتر المستمر، وفي النهاية، الكارثة.

إن صناعة السلام تتطلب جهداً لتجاوز الروايات والسرديات الكاذبة، ونقاط الانطلاق المنحازة، والتصورات الأحادية. هذا ليس «تَذرُعاً بماذا عن…» بل هو القيادة الحقيقية. وهي للأسف غائبة بشدة في الولايات المتحدة الأميركية