جورج عبد الله... حين تخرج الحقيقة من الزنزانة

جورج عبد الله... حين تخرج الحقيقة من الزنزانة
كأنها شخصية عظيمة خرجت من الكتب... لا من زنزانة. كأنّ السنين لم تكن قيدًا، بل صقلًا للصوت والوعي والموقف.
جورج إبراهيم عبد الله، الذي قضى خلف القضبان واحدًا وأربعين عامًا، لم يكن سجينًا عاديًا، بل شهادة حيّة على زمن طويل من التواطؤ والصمت، وزمن أطول من الصمود والصبر.
عاد إلى أرضٍ عربية لا ليُحتفى به، بل ليعيد توجيه البوصلة. لم ينظر إلى الكاميرات، بل نظر إلى الدم. لم يحيِ المنافقين، بل انحنى أمام دماء الشهداء. لم يقل "أنا"، بل قال "هم": الأسرى، الشهداء، المقاومة، الجماهير.
صوته، الخارج من ليل السجون، اخترق جدران الوهم، ليقول الحقيقة الصادمة:
صاح بكل عزم وقال على بُعد أمتار من الأزهر الشريف، منارة العلم والعدل والرحمة، يُذبح الأطفال. على بُعد خطوات من أتباع الرسول محمد في مصر، الذين يقرؤون سيرته ويصلّون عليه، تُذبح أطفال غزة. ليس في الخفاء، ولا في صمت الليل، بل في وضح النهار، أمام الشاشات، وعلى مرأى من العالم.
المجزرة ليست بعيدة. الصوت قريب. والدم على الأبواب.
خرج الأسير ليشهد على هذه المرحلة: أنظمة صامتة، مؤسسات خانعة، نخب مفرغة من المعنى. ولم يبقَ إلا الجماهير… الجماهير التي، إن نظّمت صفوفها، قلبت المعادلات. الجماهير التي تملك، وحدها، القدرة على وقف الذبح، على فضح العار، وعلى إعادة الكرامة إلى موقعها.
جورج عبد الله لم يتغيّر. لم يُرهقه الزمن، ولم تُصبه العدوى. لم يعد إلى وطنه ليطلب تعويضًا، بل ليكشف حسابًا. عاد وفي قلبه غزة، وفي صوته فلسطين، وفي يديه راية لم تسقط رغم كل ما سقط.
خرج من زنزانته كما دخل: ثابتًا، واضحًا، لا يراوغ. يرى الجريمة بأسمائها، ويسمّي المتورطين دون تردد. يضع إصبعه في الجرح، ويرفع صوته في وجه القتلة وكل من تواطأ معهم بالصمت أو التبرير.
هذا الصوت ليس من الماضي... بل من المستقبل. صوت يُحاكم اللحظة، ويطالب بفعل، لا دموع. صوت يذكّر بأن من لا ينهض الآن، سيسقط غدًا.
كل التحية من فلسطين لجورج عبد الله، رفيق الحرية والثبات، صوت الأسير الذي لا ينكسر، ورسالة الأمل التي لا تموت.
الكاتب محمد أبو عيد