جرح فمها بقبلاتِ رجلٍ غريب /// ناريمان حسن في "غزالة تعرج نحو منفاها"

يونيو 14, 2025 - 09:34
جرح فمها بقبلاتِ رجلٍ غريب /// ناريمان حسن في "غزالة تعرج نحو منفاها"

كتبت نداء يونس

في ديوانها "غزالة تعرج نحو منفاها" الصادر عن دار تكوين في دمشق 2024، تكتب ناريمان حسن عن الخسارات التي تكمن في الجوهر - الذي لم نستطع أن نرفده بحكمة واحدة أو عزاء واحد من كل الحيوات السابقة التي عشناها. عن البكاء الذي يتعلق بشرخ يتوسط الخطوات والكينونة، عن الموسيقى التي تحرر الحزن، والحب الذي يستيقظ بنقرة خفيفة على القلب، وعما يقاس بعمر زهرة الزنبق. تكتب عن الهشاشة والقدرة على الافتراس والحاجة الى قوة تنقذنا حين نوشك على الانطفاء، عن الحزن الذي يَقتُل، وعما يتآكل فينا، ما نفتقده، والوظائف التي نخترعها لليد.

تكتب عن الأشياء التي لم نعشها، عن الحب الذي يورث الدهشة والخراب، والمحاولات اليائسة لإجراء تنفس اصطناعي له، عن الدم الذي لا تتركه الحروب والعصافير التي تهج من الجسد عند العناق، والندبة التي تدلل على اخضرار الجسد، والعطف الذي يُولِّد توحش الكائن، والجراح التي تحضر حين نتذكر من أحببنا، والنسيان الذي لا يحدث، والألم الذي يشتغل مرآة صافية ومؤلمة، والبلاد التي تسقط حيث لا تسمع صوت الخطوات وحدها.

 الحب الذي ينمو دون أن يفكر بالخذلان

تكتب ناريمان عن الجسد الذي يقود ذاته عبر القتامات، ورائحة جسده، وهو كجحيم، كما تكتب عن طقوس ما قبل الحب الغريبة كمراقبة المجرات بالتلسكوب والغروب، وعن القبلة التي حيث تُرمى، ينمو الاقحوان دون أن نفكر بالخذلان أو بالسم الذي في اليد لا في القلب أو بالزمن الذي يمحو الآثار العميقة عن الجسد أو بالنهاية أو بالرصاص الذي يطلقه الحب علينا في النهاية أو بالقلب الذي يشيخ قبل الجسد.

تكتب عن السرير المحاط بالأسلاك الشائكة، وفي مكان منه يولد الحب. وعن صلاة مختلفة للإله: "هبنا ذاكرة فارغة/ هبنا جسد الطير كي نحتمل الحب"، وهي بهذا ترجوه أن يكون خفيفًا بما يكفي ألا يقتلها كمن ينطق باسم ذاكرة جماعية لنساء كرديات عبرن المحو والاغتصاب واللجوء والطمس، وظللن يكتبن بما تبقى من الجسد والصوت، للنجاة وخلق لغة ثالثة، تحت الرماد، فوق الألغام، وفي ظل المحو؛ وعن الأجنحة بدل اليد، وعن الابتعاد كنجاة، وعن النظرة وارتفاع الصوت كتهديد آخر للجسد المغتصب الذي طالما خدشته الوصايا التي تطالبنا بالحفاظ عليه.

تكتب عن أسباب غريبة للكتابة كالامتلاء بالمجاز والهشاشة كندف الثلج والخدوش من الإساءة والخيبة التي تولد من عهر الذاكرة وعن أسباب كثيرة للحب واستبدال العقم بالدمى والقماش بالأمومة وعن أسباب كثيرة لموت الحب، كان يترك هو لعابه يسيل على الأحلام الباردة بعد تقاسم السرير والشعر، وعن الخطوات التي تكبر دون أن تحرك ساكنا، والوقت الذي يُجمِّد حتى العواطف، والكذب.

تكتب عن أشياء كثيرة نتقاسمها، وعن عجزنا الآن عن منح الحب، عن الحزن العميق، وعن استبدالنا الشعر بالصورة حين لا نستطيع أن نقول: أحبك، بل تقول: "أنا هنا، رغم كل ما اقتُلِعَ مني".

الجسد والجغرافية كجرح مشترك

تكتب ناريمان من الذاتي والحزن والصورة الكثيفة واللغة البسيطة. وفي كل ما تكتبه عن الخسارات والهشاشة والحب، تحضر كردستان لا كإسقاط مباشر، بل ككتابة من الداخل، من الألم والجغرافية المطوقة. إنها تكتب من جغرافيا الجرح المشترك، وذاكرة الطمس والقمع والتشريد، لا سيما أن الجسد في كتابة ناريمان، ليس مجرد حضور شخصي، بل كيان سياسي وجمالي ممحو ومقاوم في آنٍ معًا - زهرة برية تقود انتفاضة. هذه ليست اعترافات ذاتية، بل بوابة نحو وعي أشمل بالمعاناة الإنسانية في وجه محو الهوية والقهر. في المعاناة الكردية، كما في قصائد ناريمان، الحب هشّ، والجسد ساحة معركة، والكتابة فعل نجاة. 

الكتابة لا تقف عند حدود الذات، فالوعي الأنثوي يتقمص كردستان، فيبدو مثلها مقاومًا، متشظيًا، وحيًا رغم كل شيء، وحيث الجسد الشخصي الذي يُغتصب، لا ينهزم، بل يمتلك السلطة ليقرر شكل الانتهاك القادم: النظرة والصوت العالي، هذا الجسد الذي يشعل انتفاضة ويتحول إلى قضية عامة لأنه جسد امرأة فقط هو ذاته الجسد الكردي الذي تم نفيه من لغته، من أغنيته، من تاريخه، ومن جغرافيته.

توظف ناريمان فكرة الأجنحة كنوع من التحوّل في الوظيفة: "لقد قصصتُ أجنحتي". فهذه ليست مجرّد استعارة عن التخلّي، بل إعلان عن فعل ذاتي مقاوم: فلا يعني قص الأجنحة بالضرورة العجز أو الفقد، بل الانتقال من التحليق الفردي إلى التظليل الجماعي، لحماية "بقايا البيوت المهدومة". الأجنحة تصبح مظلة رمزية تعكس تجربة الخسارة والخذلان، وتعيد التفكير في معنى الحرية - ليست الفردية، بل الجماعية: "قصَصْتُها ليعاد لإنسان ما حريته الضائعة". 

السخرية من العالم الحر 

ربما تعكس الأجنحة رغبة بالهروب من توحش الشمال العالمي: "لدى العالم أطنان من الهواء الطلق / إلا إنه يحصره / في حنجرة متشرد" هنا تتجلى سخرية قاتمة من العالم "الحر" الذي يمتلك الهواء لكنه يحجبه، محوّلاً إياه إلى قيد. "الحنجرة" التي يُحشر فيها الهواء تصبح رمزا للقمع والاحتجاز، و "المتشرّد" يصبح رمزًا للإنسان المهمَّش، ربما الكردي الذي مثل الفلسطيني، يتعرض للموت والقمع، والتشتيت. 

يمضي النص ليعلن عن رفض داخلي للعالم الجديد، إذ تتعدد أثواب هذا العالم، تتنوع ألوانه، لكنه يبقى قبيحًا في جوهره، غير قادر على احتواء الذات أو تمثيلها. تقول الشاعرة: "لم تعد أيٌّ من أجزائه تناسبنا". هذه الجملة المفصلية تُعلن عن انهيار كامل لفكرة الانتماء، واعتراف صريح بأن الحاضر متعب، و"البقاء حيًا" فيه مهمة شاقة. البقاء، حيث البقاء لا يعني الاستمرار البيولوجي، بل صراعًا داخليًا مريرًا ضد المحو، وحيث الواقع لا يحتفي بالضعف ولا يسمح بالانهيار، وحيث تستعيض الذات عن الغياب بالأشياء: عن الأمومة بالقماش، عن الإنجاب بالدمى، عن الشعر بالصورة. وبهذا، يعاد تركيب الحياة، كلما تعذّر العيش

تستحضر الشاعرة هذا الشعور في سؤال شاعري "ماذا لو أننا يوم ذاك أغلقنا على اللحظة في علبة محكمة الإغلاق؟" السؤال يفضح حسرة غير معلنة، ورغبة في تخليد لحظاتٍ مرّت قبل أن ندرك قيمتها. لكنه كذلك اعترافٌ ضمني بعجز الإنسان عن إيقاف الزمن، وبأن ما يُفلت من بين الأصابع لا يمكن استعادته، إلا بشكل شاحب في الذاكرة.

أرشفة الحزن

تدخل ناريمان فيما يشبه أرشفة ذاتية للحزن: "لقد كتبت عن الخذلان / عن الشمعدان الكئيب..."، وعن خيبات يومية: الأصدقاء الفضوليين، الحب بوصفه عبورًا إلى الذات، الأجداد كجسر إلى الذاكرة، والحرب، والسلم، وحتى الانكسارات الصغيرة التي "نعبرها حفاة دون أن تؤذي الأقدام قيد شعرة". هذه المفردات التي تدور حول الإنسان في علاقته بالهشاشة والذاكرة. تُشكّل خارطة ألم معقّدة، لكنها أيضًا شهادة على التجلّد، حيث يعبر الجسد الألم دون أن ينهار، أو لعلّه انهار بما يكفي، فصار لا يشعر ا أنه صار منفى لنفسه.

هنا، يتحوّل المنفى من مكان خارجي إلى حالة داخلية، قلب، أو حتى بيت- المنفى كهوية شعورية لا مكانية، وكغيب يؤسس له العنوان الذي يعمل كعتبة للمنفى الذي يأخذ صبغته الدينية من كلمة "عروج"، وحيث لا خلاص.

هذا التحوّل في التعريف "عبرت المنفى.. / لا يكون المنفى بالضرورة خراباً نعبره / قد يكون وطناً. / أو بيتاً / أو قلباً أحببناه." يعمق من ثنائية "الوطن/المنفى"، ويجعلها غير قطعية، ويتزامن مع وعي عميق بأننا "لن نخرج كاملين مهما حاولنا / التشوّه جزءٌ أصيل / لن يُسْتأصَل من سيرتنا." هذا إعلان قبول صريح بالجراح كجزء من الذات، وتأكيد على أن الكمال وهم، وأن التشوّه ليس عارًا. بل هو تفكير عميق في طبيعة الإنسان، وعبوره في عالم لا يحتفي بالضعف..

بالمجمل، تبدو لغة الديوان مجازية حادة وشفّافة، ونثرية جدا أحيانًا أخرى، نثرية حد السؤال عن أهمية تصنيف جسد الكتابة الذي نوثق من خلاله انكساراتنا في ظل الإبادة للجسد والمستقبل وحبْسِ الهواء في حناجرنا في الشكل المتوحش واللا-إنساني من تغول العولمة والرأسمالية، إنها تركز على الذاتي جدا في علاقته بالأشياء من خلال الاستدعاء، حيث يصبح السؤال عن الغائب المباشر أي كردستان شاغلًا رئيسيًا كما هو الحال في السؤال عن فلسطين في شعر فلسطينيات معاصرات يكتبن من الضفة الغربية تحديدًا، وحيث التهديد الصامت الدائم بخسارة كل شيء يولِّد بحثًا عما بقي وهو الذات، والحاجة إلى تعريف الفلسطيني في ظل خسارة كل أفق. فيهذه الجغرافية المطوقة أيضًا.

  قد يؤسس هذا على ما يبدو لدراسة مقارنة لأصوات النساء اللواتي يكتبن من مناطق الحرب والصراع، ولأصواتهن مقارنة بالشعراء الرجال أيضا من نفس الجغرافيا وحيث طبقات الصوت أكثر ذاتية وعمقًا وتحرراً من فكرة الشعر ذاته إلى توظيف أوسع للنثرية، مقارنة بما يكتبونه، وبالاستناد إلى مقالة سابقة نشرتها حول شعر الرجل الكردي من نفس البقعة، وبما لا يعني تعميمًا على الإطلاق.

 ...............

 الكتابة لا تقف عند حدود الذات، فالوعي الأنثوي يتقمص كردستان، فيبدو مثلها مقاومًا، متشظيًا، وحيًا رغم كل شيء، وحيث الجسد الشخصي الذي يُغتصب، لا ينهزم، بل يمتلك السلطة ليقرر شكل الانتهاك القادم.