"إصلاح" منظمة التحرير (خارج مهمّتها،وغائبة،ولا تريد)

"إصلاح" منظمة التحرير
(خارج مهمّتها،وغائبة،ولا تريد)
المتوكل طه
***
منظمة التحرير الغائبة عمّا يحدث منذ شهور!رأيناها على هذه الحال المتكلّسة،وعلى غفوتها،منذ عقود،لأنها لم تُجرِ أيّ مراجعات ضرورية،أو تدقيق في المياه التي جرت من تحتها وحولها،ورأينا أن المنظمة،وطننا المعنوي والسياسي،لم تستجيب لمتطلبات التاريخ،بمعنى أن ثمة قوى فلسطينية ظهرت ولم تجد لنفسها مكانا في صفوف ممثلنا الشرعي(حماس والجهاد وقوى المجتمع الأهلي)!وهذا لا يعفي تلك الفصائل من أنها تتحمّل جزءا من المسؤولية عن بقائها خارج إطار المنظمة،لشهوة فيها..ما أدى،حقا أو باطلاً،إلى أن قامت بعض تلك القوى وأعلنت عن انقسامها الحادّ ومغايرتها عن المنظمة،ما هتك بنائنا الوطني وشرخه بكيفيّة مؤسفة.
وبات واضحاً أن م.ت.ف.صارت خارج وظيفتها،لأن مهمّتها،أصلاً،هي التحرير!ورأيناها قد جنحت لمعاكسة تلك المهمة،رغم كل المبررات التي تُساق!ولم تذهب لإعادة تعريف نفسها بعد أن نطقت"بالسلام والتفاوض"ولم تفعل شيئا يوقف جرائم الاحتلال ومستوطنيه،بل راحت تحدّق،عاجزةً،بالأرض التي يتمّ ابتلاعها،وبحرائق المستوطنين المُنفلتين،وبانتهاك المقدسات وتدنيسها والاستيلاء الزمني عليها.
والمنظمة التي سارت بقدميها وقطعت المسافةَ ما بين "لا صلح ولا تفاوض ولا اعتراف" إلى ما سُمّي "سلام الشجعان والتطبيع مع المحتلّ والاعتراف به"..قد جعل من هذا الإنجرار بلا يقين،وأفقدَنا الاحتفاظ بأدوات النضال والثورة،وعمل على تقديم مهمة على أخرى،وتبديل فكرة التحرير،بفكرة الدولة،فضيّع الفكرتين معاً،التحرير والدولة،أي لم نحقق التحرير،ولم نحصل على الدولة المستقلة،ولم يعد اللاجئون،ولم تصبح القدس عاصمة،ولم تعترف إسرائيل بحقوقنا!بل ما زالت شهوة الإبادة والاستيطان تغرز أنيابها فيما تبقّى من أرضنا،وتمنع حلّ الدولتين المُقترح بفرض حقائق ثقيلة على الواقع،وعبر التدمير الممنهج السياسي والجغرافي،والقتل والتطهير العرقي والحصار والاستباحة التي لم تتوقّف.وصرنا مُلحَقين إقتصادياً بدولة الاحتلال.وظهرت السلطة،في أحسن صورها،تقدّم خدمات بلدية وتجمع الرواتب،إن استطاعت،ولا نستطيع السيطرة على أيّ معبر أو على بوصة واحدة،لنقيم عليها ضاحية أو مشروع تنمية،إلا بموافقة الاحتلال.وباتت إسرائيل هي المُتَحَكِّم الأقوى في الحالة الفلسطينية.وبتنا،فعلياً،نحول دون رفع السلاح في وجه إسرائيل،أو لنقل لم نعد قادرين على ذلك وبكيفية موجعة واستراتيجية.واتّسعت هوامش الاحتكار والفساد والتكلّس والاستزلام والشعبوية.وضاقت هوامش الحرية.وانفرطت النُخب والقوى الفلسطينية،وانكفأ بعضها،فيما ذهب البعض منها إلى خيارات مضادّة ومناكفة.وفَقدنا التخطيط الشامل لمواجهة الأسئلة الوجودية الحارقة التي تتقدّم نحونا.ورأينا حال منظمة التحرير المترهّل والعاجز،إلّا لفظياً!
لقد كانت المنظمة واحدة من أهم الانجازات التي تحققت،لتضع الحصان أمام العربة،على الرغم من أن المنظمة أوجدها النظام الرسمي العربي لتكون مدخلاً لنفوذ العرب وهيمنتهم على الشعب الفلسطيني،مع أن إنشاء المنظمة،وقتها،كان تحت الشرط العربي الذي كان يدعو للتحرير.صحيح أن حركة فتح وأخواتها هي التي أعطت لمنظمة التحرير وجودها الوطني،وأمدّتها بروحها ونسغها،وحافظت مع ذلك على التنوّع الوطني والسياسي داخلها،رغم أنها لم تتمكن من أن تخلّصها تماماً من المداخلات العربية الرسمية،إلا أنها شكّلت بساط الريح الذي حمل المشروع الوطني طيلة سنوات النضال،ويخشى أن المنظمة،أو على الأصح قيادتها الرسمية،وتحت ضغط اللحظة الملتبسة في ظل وضعٍ سياسي بات يقيد أدوات الفعل والنضال الوطني،ويتجاوزه إقليمياً،أصبحت المنظمة قنطرة لخدمة التسوية السياسية التي أفرغها الاحتلال من كل ما كان يتوقع من مخرجاتها،بل ووضعتها في خدمة الحفاظ على مكوّنات الحُكم بعيداً عن الانتخابات والديمقراطية،وتكاد تحجبها خلف ظلّ السلطة الثقيل،وتستخدم مؤسساتها لتغطية سياسات الحكم،الأمر الذي يهدد،بشكل خطير،وحدانية تمثيل المنظمة للشعب الفلسطيني.
كما تبيّن للجميع أن الشعب الفلسطيني،الموزّع في غير مكان،لم يعد شعبا واحدا،إذ أصبح للاجئين في الشتات أولوية تتمثّل بالعودة،وصار للضفة والقطاع مطلباً هو إقامة الدولة،وأضحى لأهلنا في ال48 غايةً هي المساواة،ولم يعد الشعب يقف على خطّ ثقافي وفكري واجتماعي واحد،ما يهدّد الهوية الفلسطينية الواحدة بالتشقّق وتناسل هويّات فرعية.أي فشلت م.ت.ف.بإعادة توحيد شعبها سياسيا وثقافيا.
وسمعنا غير صوت هجس بضرورة"إصلاح"المنظمة..لكن كل تلك النداءات لم تجد صدى!
وسمعنا لغطاً مُغثيا واجه معظم تلك النداءات والمحاولات،وبرزت مرافعة تقول:إن إصلاح منظمة التحرير -ومثلها فتح- يكون من داخلها،وليس من هذه العاصمة أو تلك.وأعتقد،من حيث المبدأ بأنه لا مبرِّر للهجوم على فكرة الإصلاح،أيّاً كانت،مع أنّ التحسّس من الجغرافيا حقٌّ،والتدقيق في الجغرافيا مهم،والقلق من الجغرافيا مُبَرَّر،لأن الجغرافيا قيدٌ سياسي..لكن هنالك مَن لا يريد أن يرى أنّ الإصلاح النمطي تغييب للوعي.ومنظمة التحرير تمثّل الجميع،في الداخل والخارج،فكيف سيشارك الخارج في الإصلاح؟
حسناً.أنا لا "ألعب"سياسة،وما زلت أرجو أن يتمكّن أصحاب الشأن من إصلاح منظمتنا من الداخل.ولكن ماذا إذا رفضوا،وأداروا ظهر المجنّ للإصلاح الحقيقي والفعلي؟وكيف سيكون ذلك،ونحن تحت الشرط الاحتلاليّ،الذي لا يريد "منظمة"قوية عفيّة ديمقراطية وجامعة لكل القوى؟وهذا يعني أن على قيادة المنظمة الوطنية،أن تشرع،فورا وفعليا،بالإصلاح،وإن تطلّب الأمر أن تذهب لاشتباك سياسي مع أعدائها،أو مع معارضي الإصلاح مِمَّن حولنا أو فينا..لأن اللحظة تلحف على الفكرة دون تأخير أو مماطلة.
قبل السابع من أكتوبر؛كان ينبغي إعادة المنظمة لمهمّتها،وهي الحق في المقاومة..وهذا غير قابل للنقاش،بصرف النظر عن شكل المقاومة واجبة الوجود.لكنها لم تفعل أيضاً!فماذا نفعل؟وهل لدى أحدٌ أيّ رأي يخرجنا من عنق الزجاجة؟
أعتقد أن اكتشاف فكرة التغيير أمرٌ صعبٌ،لكنه ليس مستحيلا.والأصعب،برأيي،اكتشاف أدوات التغيير..والأكثر صعوبة هو عبور عتبة التغيير .ماذا يعني ذلك؟
يعني؛أن التغيير هو الثابت الوحيد في العلوم الاجتماعية،لكن القضية تكمن في القدرة على اكتشاف أدوات لم يتمّ استخدامها،مثل دعوة لمجلسٍ وطنيٍ مختلف،وهي أداة متاحة،يضع نصب عينيه المراجعة والتفكيك والإضاءة،وإعادة النظر في القائم،بشكل جدّي وعميق ومسؤول ومختلف..ويصل إلى ضرورة الوحدة والشَراكة الجامعة،وإعطاء كلّ ذي حقّ حقه،وكل ذي حجم حجمه،على أسس وطنية،لا تخضع لمقاييس واشتراطات الإقليم،وتعتمد الديمقراطية والمأسسة،وبشكل سريع.وإلا فإن قولبة المنظمة"الضعيفة"سيكون سهلاً،أو أن هذا الفراغ سيتمّ تعبئته من قوى فاعلة،شئتم أم أبيتم،لأن الطبيعة لن تنتظر أحداً..وستعمل على تغيير المشهد،لأن قوّتها تأتي من ضعف خصومها ومن قوّتها الذاتية.
وأرجو أن نتجاوز اللغة الخائبة التي تخوّن وتتّهم،دون أن تقدّم بديل سوى التشكيك!وعلينا أن ننصت لبعضنا،ونجمع أمرنا على مصطبة فلسطين،وأن نخرج من ضيق القبيلة المتخلّف والساكن،إلى فضاء الجدّية والمسؤولية والتغيير.
إن الاستجابة للضغوط الخارجية والإملاءات الإقليمية،والذهاب إلى "الترقيع"،لن يزيدنا إلا تقهقراً وسيعمّق الأزمة.ولننتبه إلى أن أوسلو غيّرت معظم الفلسطينيين إلى القبولية،في حين حوّلت الإسرائيلي إلى كامل الرفض!ووَقَع الغرب في خطيئة أخرى ،وهي أنه ساعد ودعم وحاول نشر فكرة القبول للإسرائيلي داخل المجتمع الفلسطيني،في حين أن هذا الغرب لم يطلب من الإسرائيليين الشيء ذاته،ما حوّل الإسرائيليين إلى متطرّفين أكثر فأكثر..بحيث شهدنا تفريخاً متصاعداً لأحزاب اليمين المتطرّف الاستيطاني والمتوحّش والحاخامي.وأسأل:لماذا نخضع لمعايير العالَم ولا تخضع إسرائيل لها؟لماذا نقبل تغيير مناهجنا وعدم قبول بعضنا؟هل لأن الإقليم يسوقنا إلى خياراته!أين إذاً قرارنا المستقلّ؟
المطلوب،إذاً؛هو إعادة تأصيل،من خارج الصندوق،لبُنية المنظمة،وتعريف لمهمّتها،وفتح أفق لجمع كل التوجّهات والقوى،وعلى أسس ديمقراطية،ومن ثُمّ التوافق على إعلان لمجلس الدولة،بدستور ورؤية،تخلص إلى مطالبة العالَم لأن يدفع نحو مفاوضات على بندٍ واحد،وهو انسحاب اسرائيل من حدود الدولة الفلسطينية المُعلنة والعتيدة.
إن المنظمة بحاجة ماسّة للإصلاح،فاصلحوها،حتى لا تهبّ رياح "خارجية" تقلب الخيمة على مَن فيها..ولات حين مناص.والخلاصة هي؛أنّ المنظمة ستنتهي إذا لم نتدارك الأمر ويتمّ إصلاحها،أو أننا سنخسرها إذا تشكّل بديل لها ينازعها..وفي الحالتين سيضيع منّا الإنجاز الأكبر وهو اعتراف العالم بالشعب الفلسطيني عبر م.ت.ف.،وبهذا سنصل إلى المعادلة الصّفرية.