الرقص على حافة الجنون

فبراير 19, 2025 - 09:22
الرقص على حافة الجنون

رمزي الغزوي

في عالم السياسة، قد لا يكون الجنون مجرد حالة نفسية، بل أداة تكتيكية تُستخدم لإرباك الخصوم ودفعهم إلى تقديم تنازلات. هذه الفكرة، المعروفة بـ"نظرية الرجل المجنون"، تُنسب إلى الرئيس الأميركي الأسبق ريتشارد نيكسون، الذي حاول إقناع الفيتناميين الشماليين بأنه قد يُقدم على أي شيء لإنهاء الحرب، حتى لو كان ذلك يعني استخدام السلاح النووي. غير أن هذه الاستراتيجية لم تؤتِ ثمارها، إذ استمرت حرب فيتنام لسنوات بعد ذلك، ما يثبت أن التظاهر بالجنون ليس دائمًا مفتاحًا للنجاح.

اليوم، يجد العالم نفسه أمام زعيم آخر يثير الجدل بأسلوبه غير المتوقع: دونالد ترمب، الرئيس الـ47 للولايات المتحدة الأميركية، الذي أعلن مؤخرًا عن رغبته في تحويل قطاع غزة إلى "ريفييرا شرق أوسطية"، مشيرًا إلى إمكانية إقامة فنادق وملاعب غولف تحمل اسمه. هذا التصريح، وإن بدا مستحيلًا أو عبثيًا، يعكس رؤية ترمب للعالم كساحة لألعاب المال والعقارات، حيث السياسة ليست سوى امتداد لعقلية "المونوبولي". لكن يبقى السؤال: هل ترمب مجنون فعلًا، أم أنه يتقمص دور الرجل المجنون لتحقيق مكاسب سياسية؟

هذه الاستراتيجية ليست جديدة، فقد استخدمها قادة آخرون مثل معمر القذافي، الذي جعل من تصرفاته الغريبة وسيلة لترهيب خصومه، لكنه في النهاية انتهى معزولًا ومقتولًا على يد شعبه. كذلك، تبنى أدولف هتلر نهجًا مشابهاً، حيث بدا وكأنه يتجاوز كل الحدود السياسية التقليدية، محققًا مكاسب سريعة، لكن في النهاية أدى تهوره إلى كارثة عالمية. هناك أيضًا ماو تسي تونغ، الذي تبنى سياسات تبدو جنونية تحت ستار الإصلاح، لكنها لم تؤدِّ إلا إلى تدمير اقتصادي ومعاناة واسعة.

في هذا السياق، يُطرح اسم فلاديمير بوتين، الذي أثارت تصرفاته الأخيرة تساؤلات حول مدى اتزانه العقلي. من طاولته البيضاء الطويلة إلى خطاباته العدائية، يبدو وكأنه يتبع نهج الرجل المجنون. لكن وفقًا لمصادر مقربة، فإن بوتين ليس مجنونًا بقدر ما هو لاعب بارع يعرف كيف يستخدم التهديدات والمزايدات للحفاظ على سلطته. غير أن المشكلة في هذه الاستراتيجية هي أنها قد تتحول من مجرد تمثيل إلى واقع، فمن يتظاهر بالجنون لفترة طويلة قد يصبح مجنونًا بالفعل.

   لكن الخطير في هذه اللعبة أن من يرقص على حافة الجنون قد ينزلق إليها دون أن يدري. حين يصبح الخداع عادة، يتلاشى الخط الفاصل بين التمثيل والواقع، فتتحول المناورات السياسية إلى فوضى حقيقية. في النهاية، الجنون ليس سلاحًا يمكن التحكم به، بل نار تحرق من يشعلها أولًا.

السياسة ليست مجرد مقامرة، لكنها تتطلب فهمًا عميقًا للحدود التي يمكن تجاوزها دون فقدان السيطرة. التظاهر بالجنون قد ينجح على المدى القصير، لكنه غالبًا ما ينتهي بكارثة، لأن العالم ليس ساذجًا، وسرعان ما يدرك الجميع أن من يهدد بالفوضى إما أنه غير جاد، أو أنه بالفعل لا يملك القدرة على التراجع.