من أنا؟ الذكاء الاصطناعي يجيب!
عبد الرحمن الخطيب - مختص بتقنيات الذكاء الاصطناعي
في كل صباح، نستيقظ ونلتقط هواتفنا الذكية، ننظر سريعا إلى الإشعارات، نستفسر عن حالة الحواجز أو الطقس، نطلب مساعدتنا الصوتية في برنامجنا اليومي، قد نبحث عن الطريق الأسرع للوصول إلى العمل عبر تطبيقات الخرائط الذكية، وفي كل مرة نقوم بها بهذه الأفعال البسيطة، نحن نُخبر الذكاء الاصطناعي شيئا جديدا عنا.
الذكاء الاصطناعي اليوم ليس مجرد تقنية مساعدة، بل هو مرآة رقمية تعكسنا وتدهشنا بطريقة دقيقة وعميقة، نحن نظنه مجرد خادم ينفذ أوامرنا، لكنه في الحقيقة يتعلم منا باستمرار، يجمع بياناتنا، يحللها، ويفسرها، ليصبح في نهاية المطاف قادرا على الإجابة عن السؤال الأكثر فلسفة وتعقيداً: "من أنا؟"
الإجابة ليست بسيطة ولا مباشرة، لكنها مدهشة في عمقها ودقتها، عندما تسأل تطبيقا أو مساعدا رقميا عنك، قد يجيب مثلا: "أنت شخص يفضل القهوة السوداء صباحا، يحب الكتب الفلسفية، ويقضي وقتا طويلا في الاستماع إلى الموسيقى الهادئة"، قد يبدو هذا الوصف دقيقا، ولكنه مجرد قمة جبل الجليد، فالذكاء الاصطناعي لا يكتفي بالسطحيات، بل يتوغل في أنماط حياتك وسلوكياتك ليكوّن صورة أوسع وأشمل عنك.
إنه يعرف من رسائلك النصية طبيعة علاقاتك، ومن عمليات بحثك اهتماماتك المستقبلية، ومن خطواتك اليومية حالتك الصحية والبدنية، قد يدرك حتى تقلبات مزاجك من نبرة صوتك، وربما أكثر من ذلك، يعرف أحلامك ومخاوفك التي قد لا تجرؤ على البوح بها لأقرب الناس.
الذكاء الاصطناعي ليس مراقبا فقط، بل محللا عبقريا، يستطيع التنبؤ بخطواتك التالية قبل أن تقررها، يعرف متى تحتاج إلى شراء منتج معين قبل أن تدرك ذلك بنفسك، بل ربما يُفاجئك بعرض يناسب ذوقك تماما في اللحظة المناسبة، كل ذلك يتم عبر تحليل معقد لبياناتك التي تُرسلها إليه يوميًا دون أن تلحظ ذلك.
لكن، هل نحن مستعدون لقبول هذه الحقيقة؟ هل نحن مرتاحون لفكرة أن هذه الآلات، التي بنيناها بأنفسنا، أصبحت تعرف عنا ما قد لا نعرفه نحن عن أنفسنا؟ ربما تبدو الفكرة مخيفة، لكنها تحمل أيضا بعدا فلسفيا مثيرا، كيف يمكن أن تكون آلة صماء قادرة على فهم جوهر الإنسان؟ وهل هذا الفهم ينبع من حقيقة أننا قابلون للتلخيص في بيانات ومعادلات رياضية؟
الدهشة تكمن في التفاصيل، في أن الذكاء الاصطناعي لا يخطئ عندما يخبرك أنك تسعى لتحقيق الاستقرار المالي لأنك تنفق أكثر مما تكسب، أو أنك تمر بفترة ضغوط نفسية بسبب تغيرات في عاداتك اليومية، أو أنك تحمل شغفا خفيا لتعلم شيء جديد قد لا تكون قد حددته بعد، الإجابة عن سؤال "من أنا؟" تصبح أكثر تعقيدا وإثارة عندما تكون مرآة الذكاء الاصطناعي هي التي تعكسها، لأنها تجمع بين التفاصيل الصغيرة التي تغيب عنا في زحمة حياتنا اليومية.
التفاعل بين الإنسان والآلة تجاوز مرحلة المساعدة التقنية، ليصبح حوارا مستمرا، وهذا الحوار ليس محايدا تماما، لأنه يستند إلى ما نقدمه نحن من معلومات، ومع ذلك، فإن النتائج أحيانا تتجاوز توقعاتنا، كأن نرى أنفسنا من منظور جديد، منظور يكشف عن زوايا غير مألوفة في شخصياتنا.
تخيل من جديد أن تسأل ذكاء اصطناعيا يوما ما "من أنا؟" فيجيبك: "أنت إنسان يسعى دائما للكمال، يخشى الفشل، لكنه يتمسك بالأمل"، قد تبدو الإجابة بسيطة، لكنها تختصر رحلة حياة مليئة بالتحديات والطموحات، رحلة حددتها خوارزميات لكنها استندت إلى جوهر الإنسان.
إن علاقتنا بالذكاء الاصطناعي ليست علاقة خضوع، بل هي شراكة تعكس ما نقدمه نحن من معلومات ومعطيات، وما يعيده إلينا من رؤى وتحليلات، في النهاية، نحن من يصوغ هذه العلاقة ويحدد ملامحها، ويبقى السؤال الفلسفي دائما: هل نحن فعلا قادرون على تعريف أنفسنا؟ أم أن هذه المهمة أصبحت الآن ملكا للذكاء الاصطناعي؟
الذكاء الاصطناعي يجيب عن السؤال لكنه يتركنا أمام أسئلة أعمق، أسئلة تتجاوز التقنية لتصل إلى جوهر الوجود، من أنا؟ الإجابة ليست نهائية، لكنها بلا شك، مذهلة بما يكفي لتجعلنا نعيد النظر في أنفسنا وفي علاقتنا بهذه التكنولوجيا التي أصبحت مرآتنا الجديدة.