لن تستطيع أن تكوّن رأيًا عما يجري في غزة إلا إذا كنت هنا..

محمد العكشية : روائي وكاتب

أغسطس 16, 2025 - 17:17
لن تستطيع أن تكوّن رأيًا عما يجري في غزة إلا إذا كنت هنا..

لن تستطيع أن تكوّن رأيًا عما يجري في غزة إلا إذا كنت هنا..

تتنفس دخان الطبخ الأسود وتستنشق أدخنة سيارة تُقل عشرات الأشخاص.. وتغلق أنفك حد الاختناق وأنت تمر أمام من يحرقون الإطارات والبلاستك على الساحل ليستخلصوا السولار.. وترى سكان جهنم يسيرون على الأرض.. أحدهم يجر خروفًا في حجم هرة ليبيعه بآلاف الدولارات لسكان الجحيم الآخرين باعة اللحمة والجزارين.. من أجل أن يأكله سكان الدرك الأسفل من النار تجار العملة وحرامية المساعدات ومسلحو العائلات والقتلة وتجار المخدرات والدم..

وتسمع صياح الأطفال حينما تمر طائرة إنزال.. وتحدق في عيونهم وهم يقفون حفاة في طابور التكية.. وتسمع في الليل شتائم وأصوات طلقات العصابات وهم عائدون من غزوة على شاحنات المساعدات!

وتمتنع عن أكل بقية أرغفة الخبز من أجل الآخرين لتجد الآخرين أيضًا يمتنعون عن ذلك من أجل بعضهم البعض..

وتتذوق الطعم المر للحقد الرهيب بعد أن ترى الوجه الأملس والكرش الممتلئ لتافهٍ ملتحٍ أنيق يدعي على الشاشة أن هناك من ينتصر ويحقق إنجازات على أرض محروقة تتعرض للإبادة!!

وترى في الأفق جرافاتٍ تهدم بيوتًا ودباباتٍ تحرق أرضًا.. ويتمدد هذا كله أمام عينيك كل يوم.. وتضيق مساحة الأرض المسموح لك أن تسير عليها دون أن تُقتل..

لن تستطيع أن تكوّن رأيًا عما يجري هنا حتى تكون هنا..

تدفع الثمن بنفسك وتحاسب من جيبك وتكون أنت نشرة الأخبار لا متابعها ولا محللها!

تمر بين الخيام وتشم روائحها وترى أطفالها وتستمع إلى أحاديث الجالسين أمامها.. تصافح الأيدي المكسوة بسواد النار وتُدعى إلى كأس شاي بلا سكر.. ويمازحونك قائلين إن السكر كالمخدرات هذه الأيام.. وتحدق في العيون فترى عروقها الحمراء تكاد تنفجر من قلة النوم بسبب الحر والبعوض.. وترى رجفة طفل مصاب بالحمى لا دواء له.. وينخلع قلبك ارتجافًا لو تبقى في قلبك طاقة للانخلاع..

تمر بجوار قبر في شارع.. وتتعثر بركام مبنى على الطريق.. وتخفض رأسك أو تسقط أرضًا حينما يقع انفجار مفاجئ في آخر الشارع.. وترى لمعة القصف في الليل.. وتسمع الصوت بعد عدة ثوانٍ.. أو لا تسمع شيئًا ولا ترى.. فقط تموت.. إذا كنت في قلب الحدث!

وترى التفاوت الطبقي الشنيع الذي بدأ يتكون على الأرض وفي النفوس.. طفلة وصديقتها كانتا قبل عامين يشتريان كيس الشيبس بشيكل واحد من مقصف المدرسة معًا.. اليوم إحداهما تقف بجوار والدها الذي يدفع عشرة شواكل لشراء كيس الشيبس وتسير الثانية خلف أمها التي تهمس في أذنها (غالي يما بدناش!).. تلتفت الطفلة خلفها ثم تسير.. ينتهي المشهد.

لن تعرف شيئًا حتى تسمع أحاديث الأطفال في الشارع.. وكيف يحملون بنادق من خشب ويعدمون بعضهم البعض أو يهتفون مشيرين إلى طفل آخر أسقطوه أرضًا أو ربطوه بحبل (طخوه في رجله عمييل)!!.. يضحكون.. وتبكي أنت.. تموت قهرًا.

لن تعرف ما يجري حتى ترى بعينيك شحوب الوجوه ورثاثة الملابس وأوساخ الأقدام الحافية وتشم رائحة الأفواه الجائعة.. تأكل ما يأكل الناس هنا إذا وجدوا ما يؤكل.. وتشرب مياه الباعة المتجولين كما يشربون.. ساخنة ملوثة مجهولة المصدر!

لن تعرف شيئًا يا صديقي ولن تستطيع الحكم على شيء ولن تنجح في صياغة رأي.. حتى تكون هنا بنفسك وجسدك وروحك وممتلكاتك وأطفالك وكل ما تملك..

وحتى هذه.. فيها فروق! فهنا من يقبعون في قاع بئر الكارثة.. ومن يتشبثون بفوهتها ويخشون السقوط.. ومن يناضلون في الوسط حتى لا ينحدروا أكثر.. ولكل من هؤلاء فهمه وتجربته ورأيه..

هذه ليست معركة يقودها مناضلون من أجل تحرير أرض.. الأمر أبعد ما يكون عن هذا التوصيف! هذه مطحنة مادتها شعب كامل.. مطبخ نفسي أدواته الجوع والأشلاء والرعب لإنضاج التهجير في النفوس.. إبادة رهيبة لا تنتهي.. مجتمع كامل تم زجه في مذبحة بلا رحمة..

هنا لا تستطيع أن تكوّن أدنى رأي حتى تكون هنا.. ولا أتمنى لأحد في العالم أن يكون هنا.
محمد العكشية.
روائي وكاتب