المُخيم أصل القضية و شهادة ميلادها

ديسمبر 18, 2024 - 19:53
المُخيم أصل القضية و شهادة ميلادها

المُخيم أصل القضية وشهادة ميلادها 

من هاني الحسن وهيكل إلى مخيم جنين

في شهر تموز عام 2006 سافرنا إلى الخرطوم برفقة الأخ هاني الحسن رحمه الله حيث خاطب جمعاً غفيراً من قيادات الحزب الوطني الحاكم قائلاً : إنَّ صانع القرار الدولي أقرَّ للشعب الفلسطيني بكرسي "دولة" ما بين النهر والبحر، نتيجة لنضال شعبنا الفلسطيني وثباته الأسطوري على المبادئ منذ انطلاقة ثورته، على الرغم من كل المؤامرات ومحاولات النيل من حقوقه الوطنية وحقه الأصيل في تقرير المصير و ما يحدد حجم هذه الدولة وشكل سيادتها هو حسن أدائنا كفلسطينيين، وإن الوحدة الوطنية واندماج الكل الفلسطيني في إطار م.ت. ف ووحدانية التمثيل؛ هي الطريق الأمثل والأسلم لإظهار حُسن الأداء الذي يقطع الطريق أمام محاولات اليمين الإسرائيلي انهاء حُلم الدولة والسطو على حقوقنا عبر تغذية الفرقة وضرب الوحدة الوطنية لإضعاف التمثيل الفلسطيني، وإفشال مسعانا لتكريس الدولة الفلسطينية المستقلة، لصالح مشاريع تنتقص من حقوقنا ومن حرية شعبنا وسيادته على ارضه.

انتهى اللقاء وغادرنا عصراً إلى القاهرة، وأجرى الأخ هاني الحسن عدة لقاءات منها لقاء مع الوزير عمر سليمان، وكان هناك لقاء عاصف مع الكاتب والمفكر محمد حسنين هيكل، حيث أعاد هاني الحسن رحمه الله في هذا اللقاء نفس العبارات؛ مضيفاً بأن وحدتنا بدأت تترسخ بإجراء الانتخابات التشريعية " التي فازت بها "حركة حماس" وأننا نواجه محاولات الشاباك لضرب وحدتنا التي تكللت بتشكيل حكومة وحدة وطنية يرأسها إسماعيل هنيه "رحمه الله".

كان رد محمد حسنين هيكل : (انتو بتقولوا حاجة وبتعملوا حاجة تانيه .. أنا بقولك الطريق ده مش حيجيب دولة، ودول "يقصد لإخوان المسلمين" حيبلعوا المنطقة ، دول جابوهم عشان متعملوش دولة واللي جاي يا ابو طارق خلال سنوات زلزال حيغير المنطقة كلها).

انتهى اللقاء متأخراً وعدنا إلى الفندق، وفي صباح اليوم التالي كان لدي مجموعة من الأسئلة والتساؤلات ، كُنت مرعوباً مما قاله المرحوم هيكل ، فسألت الأخ ابا طارق: هل ما قاله الاستاذ هيكل صحيح ؟ وإذا كان صحيحاً ماذا علينا أن نفعل ؟ فقال رحمه الله : نحن لا نواجه عدواً واحداً بل نواجه أعداءً ، ومن لديه قضية كقضيتنا؛ عليه أن يستحضر حواسه الست، قال : ما يريده أعداء قضيتنا معروف ومعلوم، لكن المهم هو ما نريده نحن .. واستطرد قائلاً : شعوب المنطقة تُقاد بالعاطفة، والديمقراطية شعار كبير للخداع، وأنظمة المنطقة تُنفذ ما يطلبه الكبار .. فقاطعْته بقولي ؛ وهل هذا ينطبق علينا ؟ قال : اسمع ، شعبنا عانى الكثير وجرّب كل شيء ويستحق أن ينال حريته.. الشعوب التي لا تُستفتى ويْزجّ بها في رهانات خاسرة؛ تصبح ضحايا .. وعلى الطليعة الوطنية أن تَزج بشعبها في معركة الحرية، معركة الكرامة الوطنية للخلاص من الإحتلال؛ لا لتكريسه وإعطائه المبررات لإدامة احتلاله .. سألته كيف ؟ أجاب: إنّ من يزرع يَحصد، ومُجرمٌ من يزرع ولا يحصد، وأن البندقية تزرع وعلى السياسة أن تحصد. 

أنهى ابو طارق كلامه وأنتهت لديَّ افكارٌ كنت أظنها صحيحة؛ وكأنك قد صحوت من سبات عميق لتفتح عينيك على واقع تُبصر فيه طريقاً جديداً .. القضايا العادلة لا تدار بالعاطفة ولا بالشعارات الرنانة، العقل والحكمة هما ضالة المؤمن .. والوعي يجعلك تُدرك حجم المخاطر التي تواجهك ، وتتطور مفاهيمك عن النضال وعن الجدوى في أساليب النضال، فالكفاح المُسلح ليس غاية، بل هو وسيلة، وحركات التحرر ليست هدفاً وإنما وسيلة، والشعوب ليست وسيلة أو أداة إنما هي أصل القضية ومحورها وتعزيز صمودها واجب، وضمان أمنها وحقوقها مسؤولية .. 

رحل أبو طارق في العام 2012 في نفس شهر تموز الشهر الذي كانت به زيارتنا للقاهرة، رحل ولم ترحل كلماته وحكمته .. رحل حين كانت غزة تتمايل طرباً على أنغام شعارات النصر والتخوين ، رحل حين كانت مخيمات جباليا والنصيرات والشاطئ ورفح وخان يونس والمغازي ودير البلح والبريج تُدار بالشعار الديني والقبضة الفولاذية وبالتبعية والتفرد .. حين كانت الأبواق الصدئة تنخر الآذان وَتنخر معها الجسد الفلسطيني .. تَنتفي عنها صفة الوطنية .هذا ما حصل في غزة وفي خان يونس ودير البلح ورفح وفي المخيم .. المخيم أصل القضية وشهادة ميلادها وشهادتها الجامعية.. هو بوابة العودة وأمل انتصارنا .. مخيم جنين هو مجدنا عندما كرس الصمود أسطورة تناقلتها الأجيال اهازيجا شعبية، وهو عزنا عندما صبغت دماء ابناءه اللون الأحمر بعلمنا .. علم فلسطين، هو نفس المخيم، لم تتغير أزقته، وشواهد العز على أضرحة أبطاله وأبنائه، لم يتغير عليه شيء إلا تلك الشعارات الدخيلة الغريبة عنا التي كان يحملها البعض في مخيم جباليا زفي القطاع بعد الإنقسام .. شعارات التخوين باسم المقاومه . ورهن القضية باسم المقاومة، وإضعاف الجبهة الداخلية باسم المقاومة .. حينها صُمّت الآذان ولم تُسمع النصائح ، حينها غاب العقل فغابت الحكمة . وغابت الحكمة اختلفت الموازين فأصبح صاحب الرأي الذي يخالف رؤياهم جاسوساً مشكوكاً به، وأصبحت البندقية والحركة هدفاً وغاية لا وسيلة ، وأصبح الشعب دروعاً ووسيلة؛ لا صاحب القضية .. لم تنفع كل الحراكات والمبادرات في إقناع من رهنوا قضيتنا للدولة الصفوية أن مشروعهم ليس القدس وأنهم يروننا أدواتٍ لتحقيق أهدافهم، وأن صراعهم مع عدونا هو صراع على المصالح لا على الوجود .. لم يفهموا ولم يروا أبعد من أنوفهم .. سقطت غزة على وقع شعارات المقاومة والتبعية لإيران .. وسقط حزب الله على نفس الشعارات ومحور المقاومة .. وسقطت سوريا على نفس الشعارات بعد أن حملت وعلى مدى عقود شعارات توازن الردع والاحتفاظ بحق الرد. هذا الرد الذي لم يأتي ابدا .مخيماتنا في غزة أُبيدت ولا زال بعضنا يعيش الغفلة في قمة الرضا.. ويَتمايلُ بعضنا طرباً على أنغام الجهل وعبارات التخوين والتشهير والذم . مأساة تتكرر بنفس الشعار وبنفس الأدوات ، .. هنا تَنتشر بيوت العزاء .. وجنازات الشهداء .. وبيانات التخوين .. هنا حيث استطاب الفقيه صاحب الحضرة؛ تغييب العقول واستمرأ تكرار المشهد .. لا ثمن نقبضه لا ربح ولا انتصار .. هذا حال غزة وهذا حال حزب الله وجنوب لبنان وهذا حال سوريا والعراق ، أينما حل الولي الفقيه دُمرت الدول وحل الموت مكان الحياة وأصبحت القوة ضعفاً والوحدة تشتتاً .

من هنا يبدأ الطريق .. من يوقف نزيف المخيم ونزيف أبنائنا في المخيم .. من يضيئ مشاعل الحرية لينحسر هذا النَوء المُظلم عن سمائه .. وليقف الجميع أمام مسؤولياته .. على هذا الواقع كي يتوقف .. وعلينا إيصال صوتنا إلى إخوتنا وإلى أبنائنا في المخيم حتى تنتهي هذه الأزمة دون سفك دماء ودون التفريط بأي منهم .. "الحكمة ضالة المسلم أنى وجدها فهو أحق الناس بها ".. إن بقاءكم خيرٌ من فنائكم ولا تدروا لعل الله يُحدث في قادم الأيام شيئاً .. فأحسنوا إلى شعبكم وخذوا قراركم بالعودة إلى حضن شعبكم ليصبح هذا هو الحل الذي يضمن أقل الخسائر … فدرء المفاسد أولى من جلب المنافع .. وأُخاطب إخوتنا في بالأجهزة الأمنية؛ أن لا تيأسوا من محاولة إنهاء هذا الوضع بالطرق السلمية، وأن تضمنوا أيّ اتفاق يكفل حياة أبناء جلدتنا وسلامتهم في حال مراجعة أنفسهم والموافقة على إنهاء الحالة.

مصطفى عبد الهادي (أبو ربيع)