بعد عام من حرب الإبادة والتصفية .. المسؤولية الوطنية لمواجهة المخاطر المحدقة
جمال زقوت
لا يمكن التوقف أمام دخول حرب الإبادة المستمرة عامها الثاني، دون إعلاء الصوت بشأن استمرارها في حصد الأرواح، وتدمير القليل مما تبقى من مقومات الحياة. فشواهد الإبادة التي باتت موثقة في المحاكم الدولية، ومؤسسات حقوق الإنسان، وهي بالنسبة للفلسطيني كانت وما زالت بمثابة مقتلة مفتوحة تنفذ على الهواء مباشرة، وبات أطفال غزة أفضل الناطقين باسمها. إزاء ذلك ما نحن بحاجة إليه في هذه المناسبة هو التوقف أمام أبرز المفاصل لاستكشاف نقاط القوة والضعف التي أظهرتها هذه الحرب المستمرة بلا أفق واضح لنهاية قريبة لها، وما يعنيه ذلك، إن لم يتم معالجتها بصورة فورية، ليس فقط استمرار المعاناة، بل وخطر تبديد التضحيات.
للوقوف على هذه المفاصل الأساسية علينا أن نراجع، ولو بعجالة، العناوين التالية :
على الصعيد الاسرائيلي:
لقد ساد اعتقاد واهم لدى البعض أن السابع من أكتوبر أعاد توحيد المجتمع الاسرائيلي بعد الصراعات الداخلية حول هوية الدولة وما عرف بالانقلاب القضائي، دون التدقيق بأن جذر هذا الصراع يكمن أساساً في الاحتلال الكولونيالي والتطرف العنصري الناجم عن فائض القوة الذي دفع المجتمع الاسرائيلي نفسه بأن يحمل أقطاب الإرهاب الفاشي ودعاة الشريعة التوراتية للجلوس على مقود القيادة في حكومة اليمين الفاشي بزعامة نتنياهو. وفي هذا السياق بل، وبسببه ينجح نتنياهو المتهم الأساسي بالانقلاب القضائي، وبالمسؤولية السياسية عن الفشل التاريخيّ لما بات يعرف بالسابع من أكتوبر، في استعادة مكانته الانتخابية، فقط من خلال استمرار تنكره لحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، و تعطشه لمزيد من إراقة دماء الأبرياء من المدنيين الفلسطينيين في قطاع غزة، وكذلك في أنحاء الضفة الغربية، والآن في لبنان أيضاً، حاشداً خلفه أغلبية أعضاء الكنيست بقرار يرفض إقامة دولة فلسطينية، بمن في ذلك غانتس وحزبه، حيث لم يعترض عليه سوى تسعة أعضاء، بينما تغيب لبيد لتجنب دعمه لنتنياهو، دون أن يعلن معارضته لهذا القرار. وهنا علينا أن نلحظ أيضاً أن نتنياهو نجح تدريجياً في تهميش قضية المحتجزين في محاولة مكشوفة لنزع هذه الورقة الضاغطة على المجتمع الاسرائيلي من يد المقاومة، ومع ذلك كانت شعبيته تتصاعد رغم تعطليه المكشوف لإبرام صفقة، سيما عندما كان ينفذ عمليات اغتيال لقادة المقاومة الفلسطينية، ولاحقاً لرموز وقادة المقاومة اللبنانية. لقد استفاد نتنياهو في ذلك كله من عوامل أساسية أخرى لعل أبرزها وتبعاً لأهميتها تتلخص بالتالي:
١- نجاحه في الأيام الأولى من هذه الحرب في تسويق روايته بدعشنة المقاومة الفلسطينية من خلال سلسلة من الأكاذيب بهدف حشد الرأي العام الدولي، وليس فقط العواصم الغربية خلف ما هو مخطط من جرائم الإبادة الجماعية المعدة سلفاً، وقد كان لغياب الموقف الفلسطيني عن تفنيد هذه الرواية سيما على الصعيد الرسمي، دون إعفاء قوى المقاومة من المسؤولية عن الارتباك والفشل في التعامل العاجل مع قضية المحتجزين من المدنيين سيما كبار السن والأطفال والنساء، رغم أن احتجازهم يتعارض مع خطاب محمد الضيف الذي حذر من المس بالمدنيين، وكذلك إعلان عدد من قادة حماس أن هؤلاء وجدوا في أيدي المقاومة بالخطأ، دون المبادرة الفورية لتصويبه.
٢- تبني بايدن وأركان ادارته لرواية نتنياهو الكاذبة، والإصرار عليها حتى بعد اتضاح زيفها. كان ذلك لتشريع الدعم اللامحدود على كافة الأصعدة لاستمرار حرب الابادة، حتى عندما بات ذلك يشكل عبئاً أخلاقياً ولاحقاً انتخابياً يؤثر على فرص الديمقراطيين في الفوز بانتخابات الرئاسة. وقد استمر هذا الدعم رغم رفض نتنياهو الأخذ ولو بالحد الأدني من المصالح والمواقف المعلنة الأمريكية سواء لجهة عدم استهداف المدنيين أو الامتناع عن اجتياح رفح أو استمرار نية التهجير والتطهير العرقي كما يجري اليوم في شمال القطاع، ولم ينته بليّ عنق ما عرف بمبادرة بايدن، وقرار مجلس الأمن بخصوصها، في سبيل استمرار الحرب رغم معرفة الإدارة بعجز نتنياهو عن تحقيق أيٍ من أهداف الحرب، أو لجهة أنها باتت مجرد أجندة سياسية شخصية له، وما يحمله ذلك من إمكانية تعريض المنطقة ومعها المصالح الأمريكية لخطر حرب إقليمية تزداد يومياً احتمالات نشوبها، سيما بعد وقائع الحرب العدوانية على لبنان، وما رافقها من عمليات اغتيال مركزة، وحرب تدمير شاملة وفقاً لنموذج غزة.
٣- ضبابية دور الوسطاء الذين كما يبدو رسموا دورهم وفقاً لمؤشر القياس الأمريكي في مفاوضات الصفقة.
فرغم تخريب نتنياهو لورقة بيرنز عشية الهجوم على رفح، لم يتم الإعلان عن تحميل نتنياهو مسؤولية ذلك، سيما بعد تراجع بايدن نفسه عن تلك الورقة، وكذلك عن الضمانات التي قدمها لحماس عبر الوسيط القطري في حينه .
على الصعيد الفلسطيني:
شكلت حالة الانقسام، والتي لم تخدم يوماً سوى مخططات الاحتلال، نقطة الضعف الأبرز في حشد واستنهاض الدور الوطني الشامل في مواجهة هذه الحرب. وهنا، فإنه ليس من المبالغة القول بأن الانقسام ذاته، وما رافقه من ضعف وتردي شديدين فى الحالة الفلسطينية، بما في ذلك غياب أي جهد جدي، لمواجهة مخططات تصفية القضية الفلسطينية، كان أحد أسباب انفجار السابع من أكتوبر، وأنه لو تمكنت حوارات الجزائر والعلمين من إنهاء ذلك الانقسام، فلربما لم تقدم فصائل المقاومة على الانفراد بهجوم السابع من أكتوبر، بل ربما لم يكن ليحدث أساساً، سيما لو توفرت رؤية واستراتيجية كفاحيتين، وأطر وطنية جامعة تواجه المخاطر الداهمة. ولكن الأخطر من ذلك كله هو ترديد البعض للرواية الإسرائيلية بأن ما تقوم به اسرائيل من إبادة ربما لم يكن ليحدث لولا السابع من أكتوبر، في سقوط مريع يتجاوز لوم الضحية، بل ويحملها المسؤولية عما يرتكبه الاحتلال من جرائم .
وفي هذا السياق أيضاً، وفي إطار النأي بالنفس عن متطلبات المواجهة السياسية، فقد استمرت القيادة السياسية في التردد وتجنب إمكانية توحيد الصفوف، وأدارت الظهر للإجماع الوطني والشعبي لتشكيل حكومة وفاق غير فصائلية تتولى مسؤولية إدارة الضفة والقطاع معاً لمنع نتنياهو من تحقيق أبرز أهدافه في الحرب، والمتمثل بفصل القطاع عن الضفة، لمنع قيام دولة فلسطينية، وقد استمرّ هذا الموقف حتى بعد توصل الفصائل لإعلان بكين، والذي ما يزال تنفيذه بمثابة خشبة خلاص للحالة الوطنية، وبما يُمَكِّنُ من تحويل التضحيات الهائلة إلى إنجازات سياسية. وفي هذا السياق أيضاً لا يُمكن المرور العابر حول مسؤولية حركة حماس التي لم تبادر بما يكفي من أجل متابعة تنفيذ هذا الاتفاق، واكتفائها مع الفصائل الأخرى بتحميل الرئيس أبو مازن مسؤولية التعطيل دون بلورة ضغوط شعبية كافية لتنفيذه، بل وذهاب البعض لمواقف خطيرة من خلال الحديث عن صيغ خاصة لحكم القطاع، أو حلولٍ وسطية في جوهرها لا تخدم سوى مخططات نتنياهو بفصل الضفة الغربية عن قطاع غزة. والسؤال الجوهري إذا كان تشكيل هكذا "هيئة حكومية لغزة " أو "هيئة مفوضين" كما يسميها البعض أو حتى "لجنة طوارئ وطنية" يتطلب توافقاً وطنياً يرسمه الرئيس، فلماذا لا يُنفذ الاتفاق على حكومة توافقية، يقوم الرئيس بتكليف رئيسها وفقاً لصلاحياته الرئاسية، وفي إطار مرجعية منظمة التحرير الفلسطينية التي تضم الجميع وفق اتفاق بكين ذاته؟ لماذا يستمر البعض في الابتعاد عما تقتضيه المسؤولية الوطنية من تحرير المصلحة والقرار الوطنيين من أي حسابات فئوية، وبما يستجيب لقدرة شعبنا على مواجهة المخاطر الكبرى، من خلال تسليحه بالأمل الذي يشكل ركيزة القدرة على الصمود في مواجهة الابادة التي ما زال يتعرض لها.
الاستخلاصات ودروس عام كامل من الصمود في مواجهة الابادة، ومن المقاومة في مواجهة محاولات الإخضاع تستدعي التفكير الجدي في القضايا التالية:
أولاً، على صعيد قوى المقاومة:
لقد أظهرت المقاومة، ورغم شراسة العدوان الدموى وتحالفه الاستعماري بقيادة واشنطن، بسالة منقطعة النظير، وما كان لها أن تتمكن من الصمود والبقاء لولا الالتفاف الوطني والشعبي العريض حولها، الأمر الذي يدعو قوى المقاومة بمفهومها الواسع للانفتاح على أسئلة باتت وجودية في سياق استخلاصات الحرب الشرسة التي يواجهها شعبنا. فقوى المقاومة المسلحة تدرك أن التيار الشعبي العريض الذي يلتف حولها، ليس بالضرورة أنه يلتف حول فكرها السياسي والاجتماعي والأيديولوجي، بقدر كونه انفضاض عن مشروع تسوية أوسلو، والذي رغم فشله استمرّت القيادة المتنفذة من التمسك بأوهامه، الأمر الذي شجع العدوانية العنصرية في تل أبيب على المضي بمشروعها التصفوي، بما يشمل حرب الابادة والضم.
الصهيونية العنصرية، ومن خلفها واشنطن وعدد من عواصم الغرب، مستمرة في وسم كفاحنا الوطني بـ"الارهاب"، وربطه بالبعد الديني "الاسلامي" لنزع الطابع والمضمون الوطني التحرري عن هذه المقاومة المشروعة وفقاً للقانون الدولي. هذا في وقت أن حركة حماس قطعت شوطاً كبيراً كونها حركة تحرر وطني، وجزءًا لا يتجزأ من الوطنية الفلسطينية المناضلة على درب الحرية والاستقلال، بل وقفزت بعد السابع من أكتوبر إلى قلب الوطنية الفلسطينية. وهنا فإنني أعتقد أن على حركة حماس إجراء نقاش جدي داخلي ومع المجتمع الفلسطيني لمواصلة توطين فكرها السياسي، وبما يتلاقي مع القاعدة الشعبية العريضة للمقاومة بمضمونها الوطني بل وبطابعها العلماني، والتي ليس بالضرورة تتوافق مع رؤيتها الفكرية والأيديولوجية.
ثانياً، على صعيد منظمة التحرير الفلسطينية:
فمن الواضح طبيعة الأزمة المركبة التي تعيشها المنظمة ومجمل فصائلها، وما تعانيه من عزلة متفاقمة، دون إنكار دورها التاريخيّ في النضال الوطني، وما حققه شعبنا من إنجازات، للأسف باتت مهددة لعوامل لا يتسع المقال لمناقشتها، وأيضاً دون إنكار لدور حركة فتح، التي طالما شكلت العمود الفقري للمنظمة، إلا أن استمرار رهان قيادة الحركة على المواقف الأمريكية، واحتكار القرار السياسي الذي يمس المصير الوطني برمته، يقف خلف التراجع الكبير لهذا الدور، والذي طالما بُني على التعددية الفكرية والسياسية في إطار الحركة ذاتها، وعلى صعيد المنظمة، كونها جبهة وطنية عريضة وقائدة للكفاح الوطني، وأن استمرار تعطيل إنجاز المتطلبات السياسية لاستعادة دور الحركة، ومعها المتطلبات السياسية والتنظيمية لإعادة بناء مجمل مؤسسات الوطنية الجامعة، على أساس الافتراق مع أوسلو، والعودة لمتطلبات الإجماع الوطني، سيعرض مكانة الحركة للخطر، ومعه مكانة المنظمة والقضية الفلسطينية برمتها
كما أنه على صعيد قوى المجتمع الحية: فللأسف، ورغم الحاجة الماسة، لبناء تيار وطني ديمقراطي عريض، فإن كافة المحاولات، التي سعت لتحقيق ذلك، لم يكتب لها النجاح حتى الآن. ففي ظل حالة الانقسام والمخاطر المحدقة بقضيتنا الوطنية، يقع على عاتق مثل هذا التيار التأسيس لبناء كتلة شعبية تاريخيّة قادرة على إنجاز التغيير الديمقراطي السلمي، إن لم يفتح الطريق للإصلاح الوطني الشامل. ولا يمكن إنجاز مثل هذه المهمة التاريخية بذات الوسائل التي سبق وجُرِّبت في سياق صيرورة الحركة الوطنية، وما وصلت إليه بواقعها الراهن من طريقٍ مسدود.
إنجاز هذه المهمة التاريخية، لا بد وأن ينطلق من الربط الدقيق بين مهام التحرير الوطني، والبناء الديمقراطي الذي يستجيب لمصالح الأغلبية الساحقة من المتضررين من سياسات الاحتلال وما يخلفه العدوان، ومن حالة الفساد والمحسوبية وشراء الذمم المستشرية، وجوهرها غياب العدالة في توزيع أعباء مواجهة الاحتلال، وتوفير متطلبات الصمود للقواعد الشعبية العريضة من خلال استنباط أدوات تعزز من قدرتها على البقاء والمقاومة الشعبية. ومن نافل القول أن الأغلبية الشعبية تقع في هذا النطاق، وهي من منابت فكرية واجتماعية متباينة، الأمر الذي يتطلب، وكشرط أساسي لنجاح مثل هذا الجهد، الالتزام بقواعد التعددية بكل متطلباتها، فأحد أبرز أسباب مظاهر انهيار النظام السياسي الراهنة تكمن أساساً في سياسات الهيمنة التفرد والإقصاء وادعاء احتكار الحقيقة والصواب.
أخيراً، إن القيام بمثل هذه المراجعات والنقاش سواء من قبل كل طرف على حدة أو من الأطراف مجتمعة حول مثل هذه القضايا وغيرها، سيسهم بنقل الحالة الوطنية من جلد الذات إلى نقاش موضوعي يُعلى المصلحة الوطنية على أي حسابات فئوية وفصائلية ضيقة أدت بمجملها إلى ما وصل إليه حالنا من مأزق خطير يبدو وكأنه مستعصياً .