قرار مدّعي عام "الجنائية".. عندما يدّعي العنصري الأبيض "التوازن والمساواة"
عندما زار كريم خان الكيان قبل أشهر، وفي ظل حرب الإبادة، اجتمع مع أهالي المستوطنين الأسرى لدى المقاومة، وشاركهم بكائيتهم كضحايا، مثلما فعل الغربي الأبيض طوال عشرات السنين متضامناً مع اليهود ضحايا النازية، حتى بعدما حوّلتهم الصهيونية لجلاّدين ضد الشعب الفلسطيني. حينها رفض الاجتماع، من باب (التوازن والمساواة) مع أهالي المعتقلين الفلسطينيين، ومنهم مئات الأطفال، وحينها أيضاً رفض ممثلو المؤسسات الحقوقية الفلسطينية محقين، كخطوة احتجاجية، الاجتماع به في رام الله.
كان خان وقتها نموذجاً للرجل الأبيض الغربي المأخوذ حتى النخاع بالموقف الصهيوني والأمريكي. لم يَرَ آلاف الضحايا تسقط يومياً بآلة الحرب الصهيونية والأمريكية، كما لم يَر آلاف المعتقلين الفلسطينيين، ومنهم مئات الأطفال، ولم يرَ أن ما يجري حرب إبادة موصوفة، كانت وما زالت. كان دم بضع مئات من اليهود المستعمِرين، وبضع عشرات من المستعنمِرين الأسرى، بالنسبة له أهم بكثير من آلاف الأسرى الفلسطينين، وتحصيل حاصل فالدم اليهودي الأبيض أهم بكثير من دم الفلسطيني.
خان على النهج ذاته
قطاع غزة غيّر بعض الشيء في توجه خان وجنائيته، فبعد 7 أشهر قرر أنه يجب التحقيق فيما يجري. احتاجه الأمر 7 أشهر ليرى الجريمة، ولم يستطع أن يغض البصر أكثر. كان يجب أن يسقط 35 ألف شهيد فلسطيني، وأكثر من 78 ألف جريح ليرى خان، القانوني الدولي، أن هناك ما يستحق التحقيق في سلوك قيادة سياسية وعسكرية صهيونية، علماً أن محكمة العدل الدولية في شباط أشارت لهم ولقراراتهم، وارتباط ذلك باحتمالية ارتكاب جريمة الإبادة.
حسناً. لقد فرض صمود القطاع ومقاومته نفسه على العالم، وغيّر العالم، إذ أخرج الملايين إلى الشوارع رفضاً لحرب الإبادة الصهيونية، ولإعلان انحيازهم لفلسطين وحريتها، فلم يكن أمام خان وجنائيته إلا أن يحنوا رؤوسهم صاغرين أمام هذا الطوفان السياسي العالمي المؤيد لشعبنا، والفاضح للإبادة الصهيونية، فحجم الجريمة الصهيونية كبير لدرجةٍ بات من الصعب تجاهله. تماماً كما أحنت الدول الإمبريالية، نفاقاً، رأسها قليلاً لتمر العاصفة، فأعلنت مطالبتها بوقف إطلاق النار بعد أشهر من الإبادة، وظلت تنادي بإدخال المساعدات الإنسانية، جنباً إلى جنب مع إدخال كل أنواع الأسلحة والذخائر لقتل الشعب الفلسطيني. لنتمعن بالأرقام التالية لتوضيح حجم النفاق الأمريكي مثلاً: قدّمت أمريكا في شهر أكتوبر الماضي 14.3 مليار دولار من الدعم العسكري (للاحتلال الاسرائيلي) وقبل شهر أعلنت تقديم 26 ملياراً، والأسبوع الماضي وافق البيت الأبيض على تقديم مليار إضافي. وبالمقابل، أوقفت واشنطن 343 مليون من الدعم للأونروا، فيما كل ما قدّمته "يو أس إيد" كدعم إنساني مشبوه أصلاً بلغ نحو 180 مليون دولار!
وكما فعلت الدول الإمبريالية، نَهَجَ خان النهج نفسه. فالدول الإمبريالية جمعت في خطابها، طوال حرب الإبادة وحتى اللحظة، بين (حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها)، أي حقها في الاستمرار بحرب الإبادة، و(تجنب المدنيين وإدخال المساعدات)، والأرقام أعلى واضحة. نهج "التوازن" المزعوم، الذي يُفصح عن النفاق الموصوف هو ذاته نهج خان.
جيد ولكن
خان لم يفعل سوى أنه سار على نهج الدول الإمبريالية، في إحناء رأسه أمام عاصفة التأييد الدولي لشعبنا، مع أنه أزعجها بعض الشيء، ولم يكن إلا ليفعل ذلك، فـ"توازنه" المزعوم لم يكن ليصلح دون تضمين أسماء في الكيان في قائمة طلب الاعتقال، وذلك متغير مهم في تعزيز عزلة الكيان عالمياً، ووضعه في الخانة التي تليق به، ككيان مجرم وليس كضحية، كما صوّر نفسه طوال عشرات السنين. ذلك إنجاز للرأي العام الغربي الشعبي فرض نفسه على خان وجنائيته.
لقد عاش الكيان عشرات السنين وهو يضمن دعم، ليس فقط الدول الإمبريالية، بل وقطاعات واسعة من الرأي العام الغربي، فكان كما يقال في المأثور الشعبي "حاطط إيديه وإجريه في مي باردة"، وقد صور نفسه كضحية، رافعاً تهمة اللاسامية في وجه مَنْ ينتقده، وضد مَنْ يقف ضده، مغلّفاً كل سرديته ببكائية مصطنعة أعادت توظيف جرائم النازية، لخدمة دعايته كجلاد يقدم نفسه كضحية.
تلك صورة ومكانة اهتزتا تماماً بفعل الصمود والمقاومة وانفضاح الكذب وفبركة الفيديوهات والقصص الصهيونية ضد شعبنا ومقاومته. أما أن يطلب خان اعتقال قادة الكيان، فيجب النظر إلى ذلك من الزاوية ذاتها: اهتزاز مكانة وصورة الكيان لدى الرأي العام العالمي. فأن يصبح نتنياهو وغالانت (فقط هما حسب خان) مطلوبَين دولياً، فهذا ليس بالأمر البسيط تاريخياً، وهذا ما جعل الصهاينة والأمريكيين يعبرون عن غضبهم المصحوب بالتهديدات والترتيبات والإجراءات والقرارات.
جيد.. ولكن هناك ما يُقال.
أولاً: "التوازن والمساواة" المزعومان في قرار خان مفضوحان، ورغم أنني لست مختصاً بالقانون الدولي، فتحليل القرار قانونياً متروك للقانونيين، إلا أنه من المعروف -من الواضح أن خان غض النظر عنه- أن إسرائيل قوة محتلة حسب القانون الدولي، وأن الشعب الفلسطيني يخضع للاحتلال، ومن حقه مقاومة الاحتلال، حتى بالوسائل العسكرية، حسب القانون الدولي، وبالتالي فإن أي مساواة بين الجلاد والضحية، بين الاحتلال وشعبنا، هي فقط محاولة للتخفيف من وطأة التوصية باعتقال قادة الكيان بالقول: ها أنذا أوصي أيضاً باعتقال قادة حماس. إنه "توازن" يسعى لإحناء الرأس بعض الشيء أمام الرأي العام العالمي، خاصة أنه يُعوّل على "تفهُّم" الرأي العام لاتهام قادة حماس، بفعل تأثير "الإسلامفوبيا" الذي يراهن عليه خان وجنائيته.
لا أعتقد أن "توازنه" هذا سيجد "سوقاً" له عند الرأي العام. فاتهام حماس ومقاتليها بجرائم، كما وصفها خان في مقابلة مع "سي إن إن"، هو في الواقع ترديد سخيف لما ضجت به ماكينة الإعلام الصهيوني والأمريكي المتصهين بعد 7 أكتوبر مباشرة. تلك كانت حفنة من الأكاذيب والفبركات والقصص التي صاغها الصهاينة، والتقطتها "سي إن إن" و"واشنطن بوست" و"نيويورك تايمز" ورددوها، ليكتشفوا فيما بعد كذبها، خاصة أن تحقيقات الشرطة الإسرائيلية، كما تحقيق أجرته صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية، فضحتها وأكدتها كفبركات وأكاذيب وقصص من نسج الخيال. يعود خان ويردد كالببغاء تلك الأكاذيب. الرأي العام بتقديري أدرك ذلك، ولذلك حصل التحول المهم في انحيازه لشعبنا.
كما تنبغي الإشارة، ومن متابعة الفعاليات التضامنية والشعارات والفيديوهات المنتشرة، إلى أن تلك الفعاليات ما زالت تتسع، في الرأي العام العالمي، وباتت تغادر مربع (الإسلامفوبيا) لتعلن موقفاً داعماً لمقاومة شعبنا. إن معزوفة "الإرهاب الفلسطيني" والسعي لـ"قتل اليهود" و"اللاسامية" و"الدواعش الفلسطينيين"، لم تعد تنطلي على تلك القطاعات التي ترى في المقاومة حقاً طبيعياً، سياسياً وقانونياً.
ثانياً: أن يكرر خان مقولة "حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها"، وهي مقولة سياسية بامتياز، لا قانونية، فهو تكرار للموقف الداعي للإبادة بلا رتوش. وأن تعلن محكمة العدل الدولية أن أفعال الكيان يمكن أن توضع تحت مسمى الإبادة، ويأتي خان ليقر لإسرائيل "حق الدفاع عن نفسها"، فهذا يعني ببساطة تبرير جرائم الإبادة حتى لو جرى ذكر الإبادة في قراره، فهذا لا معنى له، فالإبادة قرار لكيان الاستعمار، وليس مجرد قرار لاثنين من المسؤولين الإسرائيليين. وطالما اختار خان التصرف كسياسي لا كقانوني، كان يجب ومن باب التوازن، الإشارة إلى حق شعبنا في المقاومة أيضاً، فـ"توازنه" كاذب، ويفضح عدم قدرته على التوازن دائماً.
إنه لمن العدائية بمكان منح الاستعمار الصهيوني الاستيطاني في فلسطين "الحق في الدفاع عن النفس"، ولن يموه تلك العدائية اختيار نتنياهو وغالانت كموضع للاتهام من قبل خان، دون الآلاف من الضباط والجنود الذين ينفذون الإبادة، ودون عشرات الوزراء والسياسيين الذين يدعون إليها، والأهم عدم اعتبار المشروع الصهيوني نفسه في فلسطين مشروعاً لإبادة الشعب الفلسطيني، فالقضية بالنهاية ليست قانونية، بل سياسية.
لذلك، كانت فعاليات الرأي العام العالمي وخطابه المبثوث عبر العديد من الوسائل، تعيد القضية للعام 1948، العام الذي احتضن الحدث المزدوج: نجاح المشروع الاستعماري، وتهجير الشعب الفلسطيني. تلك القضية التي غيّبها قرار خان، الذي سيزعم أنه يتصرف كقانوني لا كسياسي، لكنه بالواقع تصرف كسياسي بترديد الدعاية الصهيونية والأمريكية ضد مقاتلي حماس، ووضع إسرائيل في خانة الضحية، وأنه من حقها "الدفاع عن نفسها".
كان يجب أن يسقط 35 ألف شهيد فلسطيني، وأكثر من 78 ألف جريح، ليرى خان، القانوني الدولي، أن هناك ما يستحق التحقيق في سلوك قيادةٍ سياسيةٍ وعسكريةٍ صهيونية، علماً أن محكمة العدل الدولية في شباط أشارت إليهم وإلى قراراتهم، وارتباط ذلك باحتمالية ارتكاب جريمة الإبادة.