وليد دقة.. وقد أوغلوا في قتلك ولم تمت
عندما قال محمود درويش "يحبونني ميتًا"، كان يعرف مجاز المعنى في صواب الفكرة، وكان يعي أن شواهد عديدة تمر بالعمر تثبت أن الناس بطبعهم (ربما) يحبون الموتى أكثر من الأحياء، أو يستذكرونهم موتى أكثر من استذكارهم أحياء، لهذا قال وهو في قمة القمة من العطاء، والجماهير تصفق له وتحفظ أناشيده، "يحبونني ميتًا". ترى، هل كان يقصدنا، وهل نحن بهذه الحقيقة التي تعظم شأن الموتى حين يموتوا، وإن بقوا حاضرين في أيامهم ينسوهم وهم أحياء.
ما الذي يفعله الموت يا ترى؟
وهل يمكن اعتبارنا أننا أوفياء لكل ذكرى، وكل جرح وكل ألم؟ لا ننسى بالموت أحدًا، وإن خطفتنا الحياة بعض الحين لمساحات أخرى.
وليد دقة خفيف الروح، طيب القلب، بريء الصفات، قويٌ وعنيد في مواجهة السجن والسجان، وسياسات الاحتلال التي لم ينحنِ أمامها بل واجهها في أشد لحظات المرض وأقسى ظروف الاعتقال، وكان يدرك أن سجانه يريد منه لحظة انحناء ليعلن انتصاره عليه، وهذا ما لم يحصل عليه السجان من وليد، فواصل عنفوانه بقوة المثقف وبوعيه الوطني العميق، وكبرياء صاحب الحق الرافض لكل أشكال المساومة.
ما الذي فعلته يا وليد لكي يوغلوا في قتلك؟
إنك يا وليد كشفت عنهم زيف الادعاء، وفضحت ما في عقولهم، وكتبت حقيقة عنصريتهم، وجعلتهم جبناء أمام حضورك، وأرعبتهم بالحقيقة التي قلتها وكنت تقولها على الدوام، وكلما عاقبوك بالعزل والحبس الانفرادي خرجت أكثر قوة وصلابة، وأكثر سخرية من أدوات عقابهم مهما بلغت من إجرام، ومهما كانت الوسائل مؤلمة في النفس والجسد.
إن أكثر ما كان يزعجهم فيك صوتك الحر، وقسمات الحرية في تعابير وجهك، وعنفوان قلمك ورغبتك الدائمة في إزاحة ستائر العتمة لتشرق شمس الحرية، الحرية الكاملة الغير منقوصة، وهذا عنادك الوفي لذاتك، لقضيتك وللآخرين. عناد الحر الذي اكتمل بنوره الصاعد إلى سماوات الحرية الكاملة.
وبماذا وشوشت الصغيرة ميلاد؟
وأنت تقول لها، ها أنا احتضنك برغم هذا الزجاج القبيح الذي يفصل بيننا وقت الزيارة، أقبل وجنتيك وجبينك ويديك، وأحرس ليلك الطويل في زنزانتي. هي هذه البذرة التي تفتحت في بساتين الحرية، نمت كما لو أنها نشيد روحك الأبدي، وصوت صلاتك الباقي، وهي انتصارك الحيّ على سجانك. هي الصفعة التي صعقت بها جلادك، وكسرت جدرانك، وهي صورتك التي غرستها في حديقة الوطن.
وهكذا ودعت سناء، زوجتك ورفيقة دربك الطويل، أم ميلاد التي اقتسمت معك الألم وعذابات السجن وظروف الاعتقال، مثلما اقتسمت معك فصول المرض اللعين وهي تهتف حبًا حرية حرية. لم يتوقف حبك يا وليد كما لم يجف حبر قلمك، ولم تحنِ ظهرك لمستبد ظالم، ولم تخضع، بل بقيت باعتزاز الثائر المتمرد على أدوات قهر الاحتلال، شامخًا، صادقًا، صابرًا، مستعدًا، حتى جاء وقت الرحيل عند موعد إفطار اليوم الثامن والعشرين من رمضان، وفي لحظة لم نتوقعها رحلت، قبل أن تقول لنا، أو تخبرنا بموعد الرحيل.
استشهد وليد دقة، ورفت روحه في سماء الحرية، وعانقت زمانها وأرضها، وترجل نورًا صاعدًا وقمرًا يضيء حرية إلى الأبد، وضميرًا يعظم التضحية من دون أي ارتباك بين القول والشعار والمبدأ، وديمومة الفعل، فلازمت أفكاره أسلوب حياته، ولم يبدل قط معتقداته.
لك السلام يا وليد وعليك السلام.