هزيمة أم نصر؟

فبراير 24, 2024 - 11:14
هزيمة أم نصر؟

في محراب الأمل تولد أحلامنا مترنمةً بأهازيج الفرح، محفوفة بأطياف السعادة، محلقة في نشوة الوجود، بترف الشعور الغامر لقلوبٍ كانت تبحث عن مأمن وملجأ عتيد، تاهت عنه الخطى في خضم زحام صراعات الأيام بانكسارات الحياة التي لا جبر فيها ولا نسيان. كم سعت تلك الأفئدة في دروب اكتنفها الضباب وتجلى في انحناءاتها السراب خطوة تلو خطوة في طرق وعرة متعرجة، انساب في ثناياها الألم و كسا أرصفتها صقيع الانتظار واغتالت بهجتها يد الخذلان المشبع بالوهم. لكنها لم تيأس أبداً، وبرغم كل ما عصف بها لم تستطع يوماً -ربما بغباء مطلق- أن تفقد الأمل وتحيا في كل كره ذلك التوق الجامح الخيال بأن الأمر سيكون مختلفاً برغم كل ما باءت به في سوابقها من فشل.

بين الهزيمة والنصر نتبارى في معارك شتى، ما بين الواقع والخيال، ما بين أنفسنا ومجتمعاتنا بكل ما فيها من تناقضات ما بين الصدق والافتراء المدمج بالنفاق والرياء، ما بين قوانين البشر وعدالة السماء. إنها حرب ضروس ما عاد فيها منتصر أو منهزم، فلقد أصبح الأمر بكل الأحوال سيان. في باديء ذي بدء ننتشي بعظم التحدي بخوض غمار المستحيل وتحقيق ما لم يحقق، فتُسجل وتُبجل كل شاردة و واردة بمسميات خرافية في سبيل الإنجاز العظيم الذي لا يضاهيه ولم يسبقه مثيل في قهر الأسطورة، بانهيار صرح الشيطان ودمار أتباع الضلال والبهتان فلا يوجد مغزى من التروي والتفكير، ربما بمنطقية وتحليل لما يلي كل ذلك من دمار تدمير وتهجير، فمهما كان الثمن لا بد من المضي قدماً فوق الأشلاء، جثامين الأبرياء، وحطام النفوس المثقلة بالكبرياء. أليس هذا هو الانتصار؟! لتدور الدوائر بتزايد الضغوطات واختلال الموازين في الساحات الخارجية والداخلية، فتتكالب الخطوب ليتعاظم الوهن ويبقى من الصامدين قلة تتقاذفهم أمواج المنايا في بحور الأمنيات البائسة، بأن الموازيين سوف تعود فتنقلب. لكن بعد ماذا؟! بعد كل تلك الأنهار التي سالت من دماء الشهداء؟! من بعد كل تلك البيوت التي لم يبق منها أي بناء! في تلك البطون الجائعة والأجساد المرتجفة في برد الشتاء، بانقطاع المدد والسند إلا من رحمة الله ومن ثم بما يناضل من أجله الشرفاء.


ما هي الهزيمة إن كان هذا هو النصر؟ أين هذا الفرح المنتظر؟ كيف ألوانه، أشكاله، وأين عبقه الذي سيطغى بمعجزة خارقة ليبدد رائحة كل هذا الموت؟! لا تراجع لا استسلام؟! في دوامات العناد و الاعتداد لا شيء يهم طالما هناك غاية تبرر كل الوسائل الملطخة بالآثام وتحقق مآرب أُخرى لم يعلن عنها يوماً جهاراً، لكنها فعلياً هي جوهر الأساس لكل ما يحاك من مخططات، باجتماع مال قارون بمطامع عرش إبليس، وتنفيذ جنود شر الجِنة والناس، لتمهد الطريق نحو عصر جديد بحكم أرباب الدجال الممزوج بخطايا أرواح أزهقت بطرق شتى، حية أو ميتة كانت بلا أي ذنب مقترف أو فعل يستحق كل هذا الغي و الطغيان.

الهزيمة والنصر وجهان لعملة واحدة، صكت في نار موقدة بقرابين لا حول لها ولا قوة، مسيرة بأوهام الانتصار رهبةً وجزعاً من ذل عار الانهزام، دون أي خيار في جحيم الحروب والاقتتال، ليكون البقاء فيها للأقوى بمعايير أبعد ما تكون عن المساواة العدل والإنصاف، فقط مطبقة شريعة الغاب بلا أدنى رحمة أو أي اعتبار، ليتشبث الغارقون في تلاطمها بكل ما يجسدها من أشياء شخوص كيانات ومنظومات، برغم كل الأذى والألم والفقدان المستمر المتتالي لأجزاء من الكينونة الوجودية، غير مدركين أن التخلي -وإن كان صعباً شاقاً- أحياناً هو أعظم نجاة مما يقتات على الأرواح والقلوب وكل ما تبقى فيهما من بضع أنفاس، يشهق ويزفر بها بصعوبة بالغة تحت وطأة مهاترات عالم بدائي وحشي مبهرج بأسمال بالية تدعي المثالية، تحت مسمي الحضارة والمدنية البائدة المرهونة فقط بما تقتضيه المصالح العظمى المجردة من كل إنسانية وايمان.

والله دوماً من وراء القصد