صوت فلسطين يصدح في فرانكفورت
سماح جبر

أين يمكن أن يجتمع الأسود والأشقر، الإيراني والأفغاني، الفلبيني والعربي مع الأوروبي وحتى الإسرائيلي المناهض للاحتلال؟
أين يمكن أن تأكل التبولة وأقراص السبانخ وورق الدوالي والملفوف وشوربة العدس، ثم تتحلّى بالكعك والمعمول، في مكانٍ واحد؟
وأين يمكن أن تصطحب والدتك المسنّة وطفلك الصغير لحضور فعالياتٍ مدهشة: الرسم على الوجه، والوشم بالحناء، والمعارض الفنية والموسيقية؟
ذلك ما يحدث في فعاليات التضامن مع فلسطين، حيث تذوب الفوارق بين الناس في محبةٍ مشتركة وعدالةٍ واحدة. هناك تلتقي المحجّبات مع السافرات، ومن يصلّون الجماعة مع الشباب الذين يطلون أظافرهم بالألوان، جميعهم يتسابقون في تنظيم فعاليات مناصرة للقضية الفلسطينية.
الحدث الذي أتحدث عنه اليوم هو “معرض الكتاب الفلسطيني التحرّري 2025”، الذي أُقيم في فرانكفورت يومي 18,19 أكتوبر، مقابل معرض فرانكفورت الدولي للكتاب، في خطوةٍ جريئةٍ تهدف إلى مواجهة الصمت الألماني تجاه الإبادة الجماعية في فلسطين، ورفض محاولات إسكات الأصوات الفلسطينية.
وُلدت “مكتبة فلسطين” من رحم الوعي والحنين، على أيدي مجموعةٍ من المثقفين والنشطاء الفلسطينيين والعرب المقيمين في المانيا، الذين أرادوا أن يجمعوا الكتب والأعمال الفنية والإنتاجات الفكرية حول فلسطين، ليخلقوا فضاءً مفتوحًا للحوار والتعلّم والتضامن.
ليست المكتبة مشروعًا توثيقيًا فحسب، بل مساحة نابضة بالذاكرة والنضال، حيث تلتقي القصص والشهادات والقصائد لتروي الحكاية الفلسطينية من أفواه أصحابها لا من روايات الآخرين.
ينظم المعرض بهدف رفع الوعي بالقضية الفلسطينية من خلال التعليم السياسي والفعاليات الثقافية وبناء العلاقات المجتمعية.
جاء إنشاء المعرض كردّ فعل على منع حفل تكريم الكاتبة عدنية شبلي، صاحبة رواية “تفصيل ثانوي” في معرض فرانكفورت العام الماضي، وعلى سياسات المعرض المنحازة التي تتعاون مع دور نشر إسرائيلية بينما تحظر الروسية وتستضيف ناشرين يمينيين متطرفين.
هكذا أراد منظّمو “المعرض الفلسطيني التحرّري” أن يفضحوا التواطؤ الثقافي الألماني الذي يتزيّا بثوب التقدّم بينما يقمع التضامن مع فلسطين.
يقام المعرض في الهواء الطلق لأن السلطات تمنع المنظمين عادةً من استئجار القاعات.
تنتشر فيه خيامٌ متعددة تعرض المحاضرات والحواريات والمقاطع المصوّرة والمداخلات عبر الإنترنت، إضافةً إلى المعارض الفوتوغرافية والفنية.
ويقبل المنظمون تبرعات مالية وكتبًا من كل المهتمين بنضالات التحرر ومناهضة الاستعمار حول العالم، في مبادرةٍ تستحق أن تكون في طليعة الدعم من المؤسسات الفلسطينية.
في إحدى أمسيات المعرض، اجتمع الحضور حول تجربةٍ فنيةٍ مميّزة قدّمتها مجموعة “نادي الشيخ إمام – باريس”، التي تستلهم من إرث الفنان الكبير الشيخ إمام، ذاك الصوت الذي غنّى للفقراء والمقهورين، وجعل من لحنه البسيط منبرًا للكرامة والتمرّد على الظلم.
كانت تلك الليلة اكتمالًا لمشهد المقاومة الثقافية؛ تماهى فيها الأدب مع الموسيقى، والذاكرة مع الإيقاع.
غنينا لفلسطين ولبيروت وللشهداء وللأسرى السياسيين في كل مكان، فصدحت الأغاني التي شكّلت وجدان أجيالٍ من العرب — أغنيات الحرية والعدالة والناس الطيبين.
لم نعد نفرق بين المغنّي والجمهور، إذ تحوّل المكان إلى كورَس جماعيّ واحد يردّد اللحن والمفردات كما لو كانت صلاةً من أجل الحرية.
كان الغناء هناك فعلَ مقاومةٍ جماعية ومساحةً لتفريغ الألم واستعادة الإحساس بالانتماء.
امتزج الأسى بالمتعة، والوجع بالأمل، والحزن بالحب، فاختبر الحضور تجربةً إنسانيةً نادرة من الشفاء الجماعي بالصوت والإيقاع.
هكذا جسّدت الأمسية جوهر فكرة “مكتبة فلسطين”: أن الثقافة ليست ترفًا، بل شكل من أشكال الصمود والمقاومة، وأن الفن يمكن أن يكون جسرًا للتواصل الإنساني.
في تلك الليلة، غنّى الجميع من القلب، وكأن غزة كانت معنا، حاضرة في اللحن والكلمة، في الدموع والابتسامات، وفي الصمت العميق الذي تلا الأغنية الأخيرة.