الوجود المسيحي المشرقي حلقة موصولة منذ القرون الأولى للميلاد
أهمية استعراض هذا التاريخ في هذا الوقت بالذات هام للغاية للدلالة على أنَّ المسيحية هي مشرقية المنشأ بإمتياز، فمِن بلادنا المقدسة نشأت المسيحية، إذ تمّت البشارة في الناصرة، وميلاد المسيح في بيت لحم، ودرب الآلام والجلجثة والقيامة في القدس، والمعمودية في نهر الأردن حيث ابتدأ السيد المسيح رسالته بنشر إنجيل المحبة والسلام. فالمسيحية لم تكن أبداً بضاعة مستوردة بل مشرقية المنشأ، ومن بلادنا المقدسة انتشرت للعالم أجمع بقيمها الدينية والروحية والأخلاقية وأصالة تعاليمها المرتكزة على تعاليم السيد المسيح والرسل الأطهار.
ومنذ العام ٣٣ جلس على كرسي أبرشية القدس القديس يعقوب، وكان قد ألقي به من أعلى الهيكل ليَلقى حتفه في خطوة لمحاربة المسيحية في مهدها. وهكذا تغمسّت الكنيسة بالدم منذ نشأتها بسبب الإضطهاد الذي تعرّض له أسلافُنا المسيحيين الأوائل من قبل السلطات الرومانية واليهودية، فشكلّت دماءهم بذار الكنيسة الحيّة التي حملت رسالتها بكل أمانة وإخلاص في سبيل معلمها وسيدها يسوع المسيح وإلى العالم أجمع، فالمسيح بعد صعوده إلى السماء أرسل لهم الروح القدس ليقوّيهم ويثبتهم ويحوِّل خوفَهم وضعفَهم إلى قوةٍ وشهادةٍ حتى الموت في سبيل حمل رسالة المسيح، تماما كما كتب القديس بولس،"الذي لأجله خسرت كل الأِشياء وحسبتها نفاية".
فالكنيسة المسيحية تعرّضت منذ نشأتها لإضطهادات قاسية وإرهاصات بشعة دامت ثلاثة قرون ذهب ضحيتها مئات الألوف من المسيحيين الأوائل المؤمنين والمخلصين لتعاليم السيد المسيح والكنيسة، حيث وفي محاولة لطمس معاليم المسيحية أمر الإمبراطور الروماني الوثني أندريانوس في العام ١٣٤ ميلادية ببناء المعابد فوق كل الأماكن المرتبطة بحياة السيد المسيح، مثل تل الجلجلة، القبر الخلاصي، مغارة الميلاد وغيرها الكثير من الأماكن في محاولة بائسة لمحق المسيحية وكل ما تعلّق بها.
واستمَّر الحالُ كذلكَ حتى سنة ٣١٢ ميلادية حيث وبإلحاحٍ من القديسة الإمبراطورة هيلانة وافق ابنها الإمبراطور قسطنطين أن يكُّفَ عن اضطهاد المسيحية وأتباعَها، وأن يسمح بحرية الديانات، فوافق على ذلك واعتنق هو نفسه المسيحية واعتمد بسبب والدته القديسه هيلانة، فكان ذلك نقطة تحول في تاريخ الإمبراطورية الرومانية والتي تحولت إلى ما أصبح يعرف بالإمبراطورية الرومية (الروم الأرثوذكس)، ومنذ ذلك التاريخ بدأ إزدهار بناء الكنائس داخل الأمبراطورية الرومية وتوسّعت المسيحية وانتشرت شرقا وغربا.
وفي ذلك الوقت كانت كنيسة القدس أبرشية صغيرة تابعة لمتربوليتية قيصرية فلسطين، وفي العام ٤٣١ قام أسقف المدينة المقدسة يوفيناريوس بتقديم طلب إلى المجمع المسكوني الثالث لتصبح أبرشية القدس بطريركية مع توَسُّعِ تخومها، فرُفض طلبه، ولكن في المجمع المسكوني الرابع (في خلقدون) سنة ٤٥١ ميلادية تمت الموافقة على طلبه، فتحولت أبرشية القدس إبتداء من العام ٤٥١ ميلادية إلى عصرنا الحاضر إلى البطريركية المقدسية. وكانت فلسطين آنذاك تعرف: بفلسطين الأولى وعاصمتها قيصرية فلسطين، وفلسطين الثانية وعاصمتها بيسان، وأما فلسطين الثالثة فكانت عاصمتها البتراء وكانت ميتروبوليتيه ويتبع لها سبع أبرشيات، ولكنها كانت تابعة إداريا للقدس.
وارتبطت البتراء بحياة القديس بولس الرسول حيث عاش هناك وكرز وبشّر، وكذلك الكثير من المسيحيين القديسين عاشوا في تخومها وفي مغرها وكهوفها، وأثروا بحياتهم بناءَ الحضارةِ الرومية الجديدة والتي سُمِّيت لاحقاٌ بالبيزنطية. ففي كل بقعة في بلادنا المقدسة هناك آثارات كنائس وأديرة، فمثلا في البتراء وحدها ما تمّ اكتشافه لتاريخ اليوم هو عشرة كنائس.
ولكنَّ نكسة أخرى حلّت بالمسيحية المشرقية وبالتحديد بالكنيسة الرومية إذ تعرّضت البلاد للدمار من قبل الفرس سنة ٦١٤ ميلادية، فتَّمَ التنكيل بالمسيحيين، وبوشاية من اليهود تم قتل الآلاف المؤلفة من الرهبان والنساك الذين جماجمهم ما زالت موجودة في دير مار سابا بفلسطين.
ولكن ومع مجيء الإسلام أصَّرَ بطريرك المدينة المقدسة صفرونيوس على استقباله شخصيا الخليفةَ الفاروق عمر بن الخطاب في العام ٦٣٨ ميلادية، ليسلِّمَه مفاتيح المدينة المقدسة، وهناك في دير الكنيسة على جبل الزيتون تم صك العُهدة العمرية، وبدأت مرحلة جديدة في بناء حضارة مشرقية عربية مشتركة منذ الف وأربعمائة سنة وإلى يومنا هذا، حيث حبانا الله قيادة هاشمية مباركة وتحت ظل جلالة مليكنا عبد الله الثاني ابن الحسين المعظم برعايته ووصايته الهاشمية على المقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس
وسيبقى هذا التاريخ العريق على امتداد ألفي عام، وهذه الحِجارة الأثرية التي تحمل إرثاً وتاريخا وحضارة، يتكلم وينطقُ بما طوته صفحات كثيرة. ومن الأهمية بمكان أن لا يُغفل عنه أو أنْ يتِّمَ طمسُه لأنه إرثٌ مشرقي تاريخي وحضاري وإنساني وروحي تنبضُ به حجارة بلادنا المقدسة حتى يومنا هذا.