الجزيرة كحل .. تدهور عام في كل شيء

يناير 25, 2024 - 13:55
الجزيرة كحل .. تدهور عام في كل شيء
نقل الفلسطينيين الى جزيرة اصطناعية في البحر المتوسط والسيطرة عليهم، هي فكرة لم تعد مغرية لفيلم سنيمائي او رواية او حتى منتزعة من اساطير اغريقية او غيرها.
قذف الفلسطينيين في مناطق نائية او معزولة كأنهم اشرار او جذامى او مدانين، فكرة تخرج عن كونها فكرة عقاب الى نفي للحوار او التعايش او الاعتراف او حتى الاقتراب.
إبعاد الفلسطينيين هي الفكرة الاسهل التي مارسها الاسرائيلي بحقهم لمدة طويلة من الزمن وما يزال.
الابعاد كعقوبة تشبه النفي او نفي يشبه الموت، وكأن الاسرائيلي اليهودي ـ للاسف الشديد ـ يعيد اليهم تاريخه مقلوباً ومريراً ومالحاً وكالحاً او كل ذلك، في ترجمة فريدة لما قاله الشاعر الراحل مظفر النواب ان الفلسطينيين تحولوا الى يهود التاريخ.
ان فكرة الابعاد او العزل او الانعزال في زنزانة او في قطاع او في قرى مسورة بالمكعبات او السواتر او البوابات او في سجون مغلقة او مفتوحة او في جزر طبيعية او صناعية او النفي بعيدا عن البيت والوطن ، كل ذلك تم تجريبه ومعايشته ولم يؤد الا الى زيادة الحنين وتراكم الغضب وانفجار البراكين .
الابعاد والنفي والفقد والثكل ليست حلولا ابدا ، فكل ذلك سيزيد من روعة البيت والقه ودفئه وضرورة العودة اليه واصلاحه مهما كان مدمرا ، فغياب البيت ادعى لحضوره ، والبعد عنه يجعله جنة مفقودة لا بد من العودة اليه ، الابعاد حتى لو كان الى جزيرة جناء هو حكم بالموت على الانسان ، لان فيه خيانة التخلي عن الذات والهوية ، وبناء ذات اخرى وهوية اخرى في مكان لا يشبههما ولا يتألف معهما، المكان الاخر مهما كان لا يمكن له ان يخلق في الوجدان ذاتا اخرى ، واختراع جزيرة للحل او العقاب او التخلص من الصراع وتبعاته ، وبعيدا عن كونه استهتارا واحتقارا واستصغارا لكل شيء الا ان هذا الحل القائم على الغطرسة والقوة والوقاحة فهو يعكس ايضا عدم الرغبة في الحوار او الاعتراف بالواقع .
انه حل اشبه بالاحلام الصبيانية او احلام اليقظة التي تعتقد ان الجن قادرون على حل كل الاشياء ، هو حل يخلو من الدبلوماسية او حتى احترام المشاعر الانسانية او قراءة الوقائع التاريخية والمتغيرات السياسية والتوازنات الجيوسياسية ، وهو حل يعتقد ان الشعب الفلسطيني ليس له علاقة روحية بأرضه اولا ، وانه شعب عملي يبحث عن مصالحه ثانيا ، وانه شعب يخاف من التحديات ثالثا، وانه يهرب في حالة الخوف او الاغراء او كليهما ، بمعنى آخر ان هذا الحل هو حل يحول الشعب الفلسطيني او يفترض انه مجرد جماعات لا وشائج بين مكوناته اوبينه وبين ترابه وتاريخه ومستقبله ، الجزيرة تبدو هنا وكأنها بديل ارضي ومصالح آنية وملاجئ ايواء لخائفين او جذامى او مطرودين .
هذا حل مضحك، اسرائيل هي وحدها الخاسرة فيه ، لانها وبعد 75 سنة تصطدم بالواقع الذي حاولت فيه طيلة الوقت ان لا تراه او لا تتعامل معه كما يجب او كما ينبغي .
لا يمكن اغماض العين عن شعب كامل ، والتعامل معه كأنه غير مرئي او انه مجموعة افراد او ظلال او جماعات مفككة بلا حقوق وبلا رواية وبلا تاريخ وبلا جذور وبلا مستقبل .
الجزيرة هنا حل يلخص هذا الجنون وهذا الانفصام عن الواقع ، ويكرس الرؤية الاحتلالية القديمة الجديدة التي اثبتت انها لم تنجح حتى الان الا في المزيد من تعميق الصراع .
الابعاد الى جزيرة في عرض البحر لا يضع نهاية للصراع ابدا، وبعيدا عن فنتازيا الحل الذي يبدو وكأنه درامي وليس سياسي ، الا ان فكرة الحل القائم على الحياة في جزيرة العقاب هذه اومستوطنة العقاب وهي احدى عناوين قصص كافكا الغرائبية ، انما يعني التحضير لجولة اشد وانكى .
غني عن القول ان حل الجزيرة هو تعبير حقيقي عن الافلاس السياسي والفكري و غياب اللاعبين الدوليين المؤثرين اصحاب الرؤى والافاق، وضعف الاقليم وغيابه و انحدار في كل شيء. ان الحديث عن حل يقوم على جزيرة في مؤتمر عالمي من هذا النوع انما هو تعبير فعلي عن تدهور حقيقي في كل شيء .
*رئيس مركز القدس للدراسات المستقبلية / جامعة القدس