موت الكلمة

عيسى قراقع

أغسطس 26, 2025 - 11:54
موت الكلمة

في عُرف الاحتلال،
الصحفيّ ليس شخصًا، بل نافذة.
ومن يفتح النوافذ على الدم، على القهر،
هو خطر يجب أن يُسكت.
هو لا يحمل بندقية،
لكنه يهدّد إمبراطورية الأكاذيب بصورة،
وصوت،
وكلمة.

قتلُ الصحفيّ عند الاحتلال ليس خطأ،
بل ضرورة تكتيكية.
من يُخبر العالم،
يُربك خارطة الرصاص.
من يُوثّق الألم،
يفضح من يزرع الخراب بزيّ شرعي.

لذلك…
قُتل الصحفي،
فسقطت الكاميرا كعينٍ اقتلعها الغياب.
انكسرت العدسة، وتبعثرت الحقيقة بين الحطام.
لم يعد أحد يوثّق النَفَس الأخير للمدينة،
ولا وجع امرأة تلمّ شتات جدار،
ولا طفل يبحث عن فردة حذائه في الرماد.

قُتلت مريم ابو دقة،
وكان في صوتها غناءٌ لسماءٍ لا يطالها القصف،
تركت لوصيتها جناحين لابنها غيث:
"لا تنم قبل أن تكتب"،
لكن الورقة احترقت، والقلم صمت.
فهل يسمع غيث الآن صوتها
في كلّ قذيفةٍ تأكل الحكاية؟

قُتل محمد سلامة،
وكان على بُعد قبلةٍ من زفاف،
كان الحلم يتدلّى من قلبه كفستان أبيض،
وكانت هلا تعدّ الزهور،  
لكن يدًا مجنونة أطلقت النار على الزمن،
فاحترق الموعد، وذابت الصور في دمعة.

الاحتلال لا يقتل الجسد فقط،
بل يقتل من يُحاول قول الحقيقة عنه.
هو لا يخشى الصحفيّ كفرد،
بل كمرآة،
كمنشورٍ يُوزّع الحكاية خارج جدران القتل.
هو يعرف أن الكاميرا سلاح،
وأن الميكروفون رصاصة،
وأن الكلمة قنبلة إن خرجت من قلبٍ لا يخاف.

لكننا نعرف أيضًا:
أن من يقتل الكلمة،
لا ينتصر.

في كل رصاصةٍ تخترق صدر الحقيقة،
تُدفن وصايا، وأعراس، وأمنيات صغيرة.
وفي كل شهقةٍ لم تُوثَّق،
تموت ذاكرةٌ أخرى للعالم.

ومع ذلك،
يموت الصحفي واقفًا،
تحرسه الكلمة،
ويخلده الصدى.