إصلاح السلطة الفلسطينية بين متطلبات “التأهل” وشروط السلام الممنوع ...!

بقلم: د. عبد الرحيم جاموس

ديسمبر 2, 2025 - 10:20
إصلاح السلطة الفلسطينية بين متطلبات “التأهل” وشروط السلام الممنوع ...!

بقلم: د. عبد الرحيم جاموس

تتصاعد في المرحلة الراهنة الدعوات الدولية المطالبة بـ“إصلاح السلطة الفلسطينية”، وتماهي البعض من كتاب الرأي العرب وغيرهم مع هذه المطالبات، وهي دعوات تبدو في ظاهرها تقنية وإدارية، لكنها في عمقها تحمل حمولة سياسية تتجاوز فكرة تحسين الأداء أو تعزيز الحكم الرشيد.

فالمسألة ليست بحثًا في تطوير مؤسسات الحكم قدر ما هي إعادة صياغة دور السلطة ووظيفتها بما يتوافق مع رؤية إسرائيلية– أمريكية تهدف إلى إدارة الصراع لا حله، وتحويل “الإصلاح” إلى أداة ضغط تُستخدم لتبرير الجمود السياسي، بل وتحميل الفلسطينيين مسؤولية فشل عملية سلام لا يُسمح أصلًا بانطلاقها.

 

أولًا: مفهوم الإصلاح كما يطرحه المجتمع الدولي ...

لا يشير الخطاب الأمريكي والأوروبي إلى إصلاح سياسي مؤسسي يضمن الشراكة والمساءلة، بل يركّز على مجموعة شروط أمنية وإدارية تُبقي السلطة ضمن هامش وظيفي محدود يخدم متطلبات الاحتلال أكثر مما يخدم مشروع التحرر الوطني.

وتتجلى هذه المقاربة في أربعة عناصر أساسية:

1. إعادة هيكلة الأجهزة الأمنية وضمان التزامها بدور “ضابط الأمن الداخلي” أكثر من كونها جهازًا وطنيًا يحمي مشروع الدولة.

2. تحجيم الدور السياسي للسلطة وحصرها في إدارة الحياة اليومية للفلسطينيين، مع تقليص أي قدرة لها على اتخاذ قرارات استراتيجية تتعلق بالتفاوض أو مقاومة الاستيطان.

3. تطويق القيادة السياسية أو إعادة إنتاجها بما يضمن عدم خروجها عن سقف الرؤية الأمريكية– الإسرائيلية.

4. ترسيخ نموذج اقتصادي– إداري يركز على تحسين شروط الحياة بمعزل عن معالجة جذور الصراع، بما يجعل الاقتصاد الفلسطيني رهينة السيطرة الإسرائيلية.

بهذا تصبح “الإصلاحات” المطلوبة مشروعًا لتعديل وظيفة السلطة لا مشروعًا لبناء سلطة وطنية قابلة لتجسيد سيادة الدولة.

 

ثانيًا: شروط التأهل لسلام غير مسموح به ....

تتحدث واشنطن وتل أبيب عن ضرورة تأهيل السلطة للسلام، لكنهما تغلقان الباب أمام أي مسار سياسي جاد نحو الدولة الفلسطينية.

ومع ذلك تُطلب من السلطة سلسلة خطوات تُقدَّم باعتبارها “متطلبات الشريك الجاهز”، وتشمل:

احتكار العنف المشروع أو السلاح، بما يعني نزع سلاح القوى المقاومة، وجعل الأمن الداخلي معيارًا أساسيًا للشراكة السياسية.

ضبط الشارع الفلسطيني ومنع أي ردود فعل شعبية على التوسع الاستيطاني أو الاعتداءات الإسرائيلية اليومية.

توحيد غزة والضفة على أساس هندسة أمنية تتناسب مع احتياجات إسرائيل، لا وفق مشروع وطني يوحد النظام السياسي.

الالتزام الكامل بالتنسيق الأمني واستمراره معيارًا رئيسيًا لتقييم “أهلية السلطة”.

خفض سقف البرنامج السياسي بحيث لا يتضمن اشتراط وقف الاستيطان أو الاعتراف بالقدس الشرقية عاصمة للدولة الفلسطينية أو تحقيق السيادة الكاملة.

إنها شروط تجعل “التأهل للسلام” مجرد اختبار للامتثال السياسي والأمني، لا خطوة نحو إنهاء الاحتلال أو بدء مفاوضات حقيقية.

 

ثالثًا: لماذا يُحمَّل الفلسطينيون مسؤولية السلام المجمد؟

رغم أن عملية السلام متوقفة منذ أكثر من عقدين، ورغم رفض الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة لأي حل سياسي يقوم على الانسحاب ووقف الاستيطان، إلا أن الرواية السائدة تحاول تحميل الفلسطينيين كامل المسؤولية. 

وتتكئ هذه الرواية على ثلاث مقولات رئيسية:

1. صرف الأنظار عن المسبب الحقيقي للجمود، وهو الرفض الإسرائيلي العلني لأي مسار يؤدي إلى دولة فلسطينية مستقلة.

2. إلقاء اللوم على الانقسام الداخلي الفلسطيني، وأداء السلطة لتبرير الامتناع الأمريكي عن أي تدخل فاعل في دفع العملية السياسية.

3. الترويج لفكرة أن الفلسطينيين “غير جاهزين للسلام” لإدامة الوضع القائم وإعفاء إسرائيل من الاستحقاقات السياسية المطلوبة.

هكذا يتحول “الإصلاح” إلى شماعة سياسية تُغطّي على حقيقة أن السلام مجمّد بقرار أمريكي– إسرائيلي، وليس بسبب قصور فلسطيني مفترض.

نخلص إلى: إصلاح في الاتجاه الخطأ ...

إن أزمة السلطة ليست أزمة بنية إدارية أو مؤسسية فحسب، بل هي أزمة سقف سياسي مفروض عليها بالقوة. 

وأي إصلاح لا يهدف إلى تعزيز مشروع التحرر الوطني، وإعادة بناء النظام السياسي على أسس المشاركة والمساءلة والوحدة الوطنية، سيكون مجرد استجابة لضغط خارجي يعيد إنتاج السلطة كجهاز إداري منزوع الدور السياسي.

الإصلاح الحقيقي هو الذي يعيد الاعتبار للبرنامج الوطني، ويوحد المؤسسات، ويستعيد القدرة الفلسطينية على المبادرة السياسية، ويواجه السياسات الإسرائيلية والأمريكية التي تعطل مسار الحل. أما الإصلاح الذي يُراد فرضه اليوم، فهو محاولة لصناعة شريك فلسطيني ضعيف يتحمّل وحده مسؤولية الفشل، في حين يبقى الاحتلال هو صاحب القرار الفعلي في منع أي تقدم سياسي.

إن تحميل الفلسطينيين مسؤولية سلامٍ ممنوع أصلًا هو شكل من أشكال الهروب الدولي من مواجهة الحقيقة: لا سلام بلا إرادة سياسية دولية تضغط على إسرائيل، ولا إصلاح ذا معنى دون مشروع وطني حرّ ومستقل يقود الشعب نحو تقرير مصيره وإقامة دولته المستقلة ذات السيادة وعاصمتها القدس.