"عناقيد الخليل:حين يُصادر الاحتلال مواسم الندى"

بقلم: د.منى أبو حمدية دكتوراه تراث وآثار

سبتمبر 29, 2025 - 12:49
"عناقيد الخليل:حين يُصادر الاحتلال مواسم الندى"

"عناقيد الخليل:حين يُصادر الاحتلال مواسم الندى"

بقلم: د.منى أبو حمدية
دكتوراه تراث وآثار 

في الجغرافيا الفلسطينية، حيث تتناثر الحكايات بين الحقول والجبال، تظلّ الخليل مدينةً تُعرّف نفسها بكرومها. لا تكاد تُذكر الخليل إلا ويستدعي الذهن صورة العنب المتدلّي كعناقيد من زمرد، تتلألأ تحت شمس أيلول كأنها قناديل معلّقة في ذاكرة الأرض. هذا العنب لم يكن مجرّد محصول زراعي عابر، بل هو موروث حضاري وثقافي واجتماعي، شكّل عبر قرون جزءاً من هوية المكان وسرديته.


ولأنّ الأرض في فلسطين ليست مجرد تربة، بل سجلّ حياة وذاكرة صمود، فإنّ العنب لم يكن ثمراً فقط، بل كان رمزاً للوفرة والكرامة. من خلاله تُكتب الأغاني الشعبية، وتُعقد الأسواق، وتُنسج الحكايات. غير أن الاحتلال سعى، ولا يزال، إلى محو هذه الرمزية عبر استهداف الكروم، وحرمان المزارعين من أبسط حقوقهم في زراعة أرضهم وقطف ثمارهم. وهكذا تحوّل موسم العنب، الذي كان يوما عيداً جماعياً للخصب والوفرة، إلى موسم جرحٍ ونزيف.


سرد تاريخي لعنب الخليل


يمتد تاريخ عنب الخليل لقرون بعيدة، إذ تشير المصادر التاريخية إلى أن كروم العنب شكّلت ركيزة أساسية في اقتصاد المنطقة منذ العصور الكنعانية والرومانية. في هذه الأرض، لم يكن العنب مجرد زراعة، بل كان تجارة وثقافة. فمنه صُنع العصير والنبيذ في الأديرة القديمة، ومنه صُنعت أنواع الزبيب والدبس والعنطبيخ ” مربى العنب ” التي عُرفت بها المنطقة في الأسواق الإقليمية.


ومع مرور الزمن، أصبح العنب جزءاً من التراث الشعبي، ارتبطت به المواسم والطقوس. في حلحول وسعير وبيت أمر، كانت العائلات تُغني في موسم القطاف، وتتوارث الأغنيات جيلاً بعد جيل. وكان الأطفال يلهون بين الكروم، فيما كانت الجدّات يفرزن العناقيد ليحوّلنها إلى زبيب يُخزَّن للشتاء أو دبس يملأ الجرار بالطعم الحلو. لقد تجاوز العنب في الخليل كونه محصولًا اقتصادياً، ليصبح رمزا جامعاً يجمع الناس حول الأرض ويعيد وصل حاضرهم بماضيهم.


وفي مراحل مختلفة من التاريخ الفلسطيني الحديث، ولا سيما خلال الانتفاضات، تحوّل العنب إلى رمز اقتصادي للمقاومة الذاتية؛ إذ اعتمدت الأسر عليه في مواجهة الحصار الاقتصادي، فكان غذاءً ودخلًا وذاكرة في آنٍ واحد.
التحديات في ظل الاحتلال.


رغم هذا الامتداد التاريخي والرمزي، يواجه المزارعون في الخليل سلسلة من التحديات التي تُضعف قدرتهم على الاستمرار. الاحتلال لا يتعامل مع الكروم كمحاصيل، بل “كميدان صراع”. فالمزارع يُمنع من الوصول إلى أرضه إلا بتصاريح عسيرة المنال، ويُحاصر ببوابات حديدية وأسلاك شائكة، فيغدو الطريق إلى الكرم أشبه برحلة محفوفة بالخوف.
المستوطنون، بدورهم، لا يتوقفون عند حدود الاستفزاز، بل يقتلعون الكروم ويقطعون الأغصان ويحرقون الحقول. كل عملية اقتلاع لا تعني فقدان شجرة فحسب، بل خسارة سنوات من الانتظار والعمل. أما الحواجز العسكرية فتعيق وصول المحصول إلى الأسواق، فيذبل العنب على أطراف الطرقات، ويُترك المزارع أسير خسارة مزدوجة: محصوله من جهة، ورزقه من جهة أخرى.


تحليل سياسي وزراعي للممارسات


إن الاعتداء على كروم العنب في الخليل لا يمكن قراءته بوصفه فعلًا عابراً من عنفٍ فردي، بل هو سياسة ممنهجة تستهدف ضرب البنية الزراعية والاقتصادية الفلسطينية. فعلى المستوى الزراعي، يمثّل قطع الكروم تدميرا لبنية إنتاجية تحتاج سنوات حتى تعود إلى عطائها. هذه الاستراتيجية تضع المزارع في حالة استنزاف دائم، بين إعادة غرس الكروم وتحمّل خسارة المواسم المتكررة.


اقتصاديا : يشكّل العنب مصدر دخل رئيسي لعائلات واسعة، ويُعتبر من أكثر المحاصيل قدرة على التصدير المحلي والخارجي. وعليه، فإن ضرب هذه الزراعة يُعدّ ضربا مباشرا للأمن الغذائي والاقتصاد الفلسطيني الريفي. كما ان التضييق على التسويق، عبر الحواجز والقيود، يعكس نية واضحة لتهميش المنتجات الفلسطينية وإضعاف تنافسيتها.


أما سياسياً: فإن استهداف العنب يتقاطع مع المشروع الاستيطاني الأوسع. فالمزارع الذي يُحرم من أرضه أو يخسر كرومه يصبح أكثر عرضة للهجرة القسرية أو الانكفاء الاقتصادي، وهو ما يسهّل تمدد المستوطنات على حساب الحقول الفلسطينية. ومن هنا، فإن الاعتداءات الزراعية ليست مجرد أفعال تخريبية، بل أدوات تُستخدم في صراع السيطرة على الأرض.


العنب: بين الرمز والمقاومة


عنب الخليل لم يعد مجرد ثمرة تتدلى من الكروم، بل غدا رمزاً لمقاومةٍ صامتة تتجدد كل موسم. حين يمدّ المزارع يده ليقطف عنقودا تحت تهديد الجنود، يصبح القطاف فعل تحدٍّ، والكرمة المحروقة تتحوّل إلى أيقونةٍ للصمود.
في كل غصنٍ يُقطع، يرى الفلاح وعدا بالعودة في الربيع. وفي كل عنقودٍ مسروق، يولد يقينٌ أن الأرض تحفظ سرّها وتعيد إنتاج ثمارها. العنب بذلك يشبه الفلسطيني نفسه: يُجرح، يُمنع، يُحاصر، لكنه ينهض من جديد، متمسكًا بجذوره العميقة.


لقد أصبحت الكروم مسرحاً يوميا للمواجهة، حيث تتجسد العلاقة العضوية بين الأرض والإنسان. هنا يكتسب العنب بعداً ثقافياً يتجاوز الزراعة: فهو قصيدة تكتبها الأرض بلغة الخصب، وهو علامة انتماء وذاكرة جمعية، وهو في الوقت ذاته شكل من أشكال المقاومة التي لا تحتاج إلى سلاح سوى جذورٍ عميقة ويدٍ ترفض الانكسار.


وفي الختام؛ إن عنب الخليل ليس مجرد ثمرٍ يُباع ويُشترى، بل هو تاريخٌ يتناقل عبر الأجيال، ورمزٌ للصمود في وجه سياسات الاقتلاع. حين يصادر الاحتلال مواسم العنب، فإنه لا يسطو على المحصول فحسب، بل يصادر موسم الندى الذي تُعيد فيه الأرض تنفّسها، وتُعيد فيه الجماعة الفلسطينية صياغة ذاكرتها.


إنّ خسارة موسمٍ من مواسم العنب ليست حدثاً اقتصاديا ضيقا، بل خسارة ثقافية ورمزية تعني أن جزءاً من هوية المكان قد نُهب. ومع ذلك، يبقى الأمل متجدداً. فالكرمة المقطوعة تعود لتورق، والعناقيد المسلوبة تظلّ في ذاكرة الأرض لتثمر من جديد.


وعليه، فإن عناقيد الخليل، رغم الجراح، تبقى قصيدة مفتوحة، تكتبها الأرض كل عام بحبر الشمس وندى الفجر. هي إعلان متواصل أن الزراعة في فلسطين فعل انتماء، وأن الأرض، مهما طال ليلها، ستظل قادرة على أن تُثمر حياة، وتُعلن أن المواسم لا تُمحى، بل تعود كقصيدة خضراء في وجه كل اقتلاع.

– د. منى أبو حمدية 
باحثة في الموروث الثقافي الفلسطيني