واشنطن تعاقب حماة العدالة الدولية وتعزز العدالة الانتقائية وازدواجية المعايير

أغسطس 22, 2025 - 14:19
واشنطن تعاقب حماة العدالة الدولية  وتعزز العدالة الانتقائية وازدواجية المعايير

واشنطن تعاقب حماة العدالة الدولية 

وتعزز العدالة الانتقائية وازدواجية المعايير

بروفيسور عوض سليمية 

باحث في العلاقات الدولية

في خطوة كانت مُتوقعة، أقدمت وزارة الخارجية الأمريكية على فرض عقوبات على نائبين للمدعي العام وقاضيين يشغلون مناصب رفيعة في محكمة الجنايات الدولية، ردًا على ما وصفته الخارجية في بيانها بـ "التهديد المستمر [من المحكمة] للأمريكيين والإسرائيليين". وفقًا للبيان الذي نُشر على الموقع الرسمي لوزارة الخارجية بتاريخ 20 آب/أغسطس، جاء "القرار وفقًا للأمر التنفيذي (E.O.) 14203، الذي "يجيز فرض عقوبات على الأجانب المتورطين في بعض الأعمال الخبيثة من قبل المحكمة الجنائية الدولية، ويهدف إلى فرض عواقب ملموسة وهامة على أولئك المتورطين بشكل مباشر في انتهاكات المحكمة الجنائية الدولية ضد الولايات المتحدة وإسرائيل". واتهمت الوزارة قضاة العدالة بضلوعهم المباشر في جهود تؤدي إلى "التحقيق أو اعتقال أو احتجاز أو محاكمة أي شخص محمي دون موافقة بلد جنسيته". 

لم يتوقف وزير الخارجية الامريكي مارك روبيو عند مستوى "الاعمال الخبيثة" وإتهام القضاة "بتسييس عمل المحكمة"، بل تخطى ذلك واعتبرها تُمثل "تهديداً للأمن القومي" وأداة "حرب قانونية" ضد إسرائيل والولايات المتحدة. هذا الموقف يتوافق تماماً مع موقف رئيسه ترامب الصادر بتاريخ 6 شباط/فبراير 2025، والذي اتهم فيه المحكمة وقضاتها بالانخراط "في أعمال غير مشروعة ولا أساس لها تستهدف أمريكا وحليفتنا الوثيقة إسرائيل". وأن هذه المحكمة تتجاوز "ولايتها القضائية دون أساس شرعي". ووجه بفرض سلسلة من العقوبات على كريم خان، المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، من بينها، تجميد أي ممتلكات او مصالح مرتبطة به على الارض الامريكية؛ وفقاً للموقع الرسمي للبيت الابيض. 

سلسلة العقوبات المدرجة على قائمة الخارجية الامريكية والمتوقع البدء بتنفيذها في مدة اقصاها 60 يوماً بناء على الطلب الموجه لوزارة الخزانة، لا تمثل عدواناً على قضاة المحكمة او كبار موظفيها فقط؛ بل هي اعتداء صارخ وتهديد مباشر لاستقلالية ونزاهة عمل المحكمة، وتدخل فاضح في قراراتها الهادفة لتحقيق العدالة الانسانية وترسيخ النظام الدولي القائم على القواعد، والتي طالما تفاخرت واشنطن بالسعي لتحقيقها في حروب افريقيا ويوغسلافيا والحرب الروسية الاوكرانية؛ وغيرها من الصراعات العالمية. هذه الاجراءات العقابية تأتي في سياق رسائل التهديد الصادرة عن واشنطن لعواصم العالم؛ جوهرها، ان قرارات المحاكم الدولية او المحلية لن تكون مرحب بها الا إذا كانت موجهة ضد اعداء واشنطن. وعندما يتعلق الامر بالأقوياء او الحلفاء، وهنا إسرائيل، فإن سلاح العقوبات الامريكي وربما إجراءات إنتقامية اخرى، ستكون حاضرة لإجهاض أية محاولة للخروج عن النص أو أعادة تعريف كيفية سيادة العدالة الدولية وأنصاف الضحايا في ظل القطبية الاحادية الامريكية. 

استعراض القوة لطمس العدالة الدولية الذي يُظهره ترامب واركان إدارته امام أكثر من 125 دولة مُوقعة على ميثاق المحكمة، تشخيص فعلي لميزان العدالة المائل في هذا العالم. وهي صيغة واقعية لحقيقة العدالة الانتقائية السائدة التي جسدتها الادارات الامريكية المتعاقبة منذ الحرب العالمية الثانية؛ وكرستها واشنطن بصورة أكثر فظاعة بعد انهيار الكتلة الشرقية في العام 1991. منذ ذلك التاريخ، يسعى قادة واشنطن الى تثبيت ثقافة ازدواجية المعايير في تطبيق القوانين الدولية، وحصر تنفيذها فقط على دول العالم الثالث وتلك الضعيفة التي لا تستطيع الدفاع عن نفسها وتحدي سلطات واشنطن ونفوذها العابر للقارات. 

في الواقع، ما يراه ترامب تجاوزاً خطيراً وسوء استخدام السلطة التقديرية للمحكمة الجنائية؛ لا يعدو كونه إجراءً انتقامياً متسلسلاً من قضاتها ومُدعيها العامون الذين ساهموا في اصدار مذكرتي توقيف بحق كل من نتنياهو ووزير دفاعه السابق يوآف غالانت؛ في تشرين ثاني/نوفمبر 2024. على هذا النحو، يرى ترامب حليفه الموثوق نتنياهو كـــ "بطل حرب" وليس مجرم حرب كما تتهمه محكمة الجنايات الدولية. هذه الرؤية الترامبية، هي ما دفعته لدعوة قضاة المحكمة العليا في اسرائيل الى الغاء المحاكمة واسقاط التهم "السخيفة" المنسوبة لنتنياهو والتوقف عن ملاحقته قانونياً، في "زمن الحرب العظمى"، لإبقائه وتحالفه المتطرف واقفاً على قدميه.  

تقول الحكمة السياسية، "في الصين لا يمكنك تغيير الحزب الحاكم، لكن من السهل عليك تغيير السياسات؛ لكن، في الولايات المتحدة بإمكانك تغيير الحزب الحاكم لكن لا يمكنك تغيير السياسات." هذه الكلمات يمكن العثور عليها بوضوح في سياسات واشنطن الخارجية حيث تبقى المصالح الاستراتيجية ثابته، بغض النظر عن ساكن البيت الأبيض، سواء ديمقراطي أو جمهوري. فالمحكمة الجنائية الدولية وقضاتها ومدّعوها العامّون كانوا ذات يوم مهنيين عندما أصدروا أمراً "مؤكداً بشكل واضح"، من وجهة نظر إدارة بايدن، يتهمون فيه بوتين بارتكاب جرائم حرب في أوكرانيا ومزاعم اختطاف الأطفال الأوكرانيين مطلع العام 2023. لكن فجأة، في عهد ترامب، تحول هؤلاء القضاة الى "مُسيسين" ويمارسون أعمالًا "خبيثة" وينخرطون في قضايا ليست من اختصاصهم "ويهددون بشكل جسيم الأمن القومي الأمريكي". هذا المشهد المتناقض في مواقف قادة الحزبين الكبيرين تجاه نفس المحكمة وقضاتها ليس مستغرباً، ولا يحتاج إلى عدسات مُكبرة لرؤية الحقيقة؛ فكلمة السر هنا، إسرائيل حليف واشنطن الموثوق و"الديموقراطية الوحيدة" في منطقة الشرق الأوسط، التي يسمح لها القانون الامريكي بالتصرف خارج نطاق القانون الدولي.