من غزة إلى الزنزانة: كيف يهزم السلاح أمام المعنى؟

من غزة إلى الزنزانة: كيف يهزم السلاح أمام المعنى؟
عيسى قراقع
تركوا غزة،
المادة المحروقة، الجثث المبتورة، المباني المنهارة،
تركوا فوهات المدافع ساخنة،
والسماء بلا طائرات، شبعوا من الجريمة، وتضخموا بشاعة ونذالة وانحطاط،
وذهبوا إلى زنزانة.
إلى مروان البرغوثي.
كأن الاحتلال، بعد أن أفرغ مشاعره من كل شعور،
وبعد أن استنزف كل رصاصة، وكل قنبلة، وكل مجزرة…
لم يجد أمامه ما يُقاومه،
فقرر أن يفتعل معركة وهمية في قلب السجن،
ضد رجلٍ لا يحمل إلا نبضات حرية،
وصوتًا وقامة مرفوعة ،
تركوا ركام بيوت لم تعد تنتظر احدا، ومضوا،
ال. زنزانة صغيرة، إلى فراغ الاسمنت والرطوبة،
لم يبق للمحتل ما يفغله،
المدنيون تحت الانقاض،
الاحياء اموات بالتوقيت الغربي،
وعزة لم تعد فقط جغرافيا، بل مرآة وجودية لزمن السقوط الانساني،
في زنزانة لا تحوي الا جسدا،
مقيدا، وروحا عصية،
ذهبوا إلى مروان،
بحثا عن حرب جديدة، في مواجهة رجل لا يحمل بندقية،
ولا راجمة صواريخ،
بل فكرة تعيش خارجه،
في كل طفل يولد في المخيم،
يطير عل جناح اغنية،
في غزة — انتهت الحرب من طرف واحد.
لم يبقَ للمحتل من يقتله.
لقد قتلت الحرب نفسها،
واستمر اللهاث...
نحو الصمت، نحو الإفلاس الأخلاقي.
قال نيتشه:
"من يحارب الوحوش، عليه أن يحذر ألا يتحوّل هو إلى وحش."
لكن يبدو أن هذا التحذير قد فاتهُم،
فصاروا هم الوحش،
وصارت غزة المرآة التي تكشف تشوههم.
ولأنهم فشلوا في قمع الحجارة،
وفي قتل كلّ طفل يشبه فجرًا جديدًا،
ذهبوا ليحاصروا المعنى.
ذهبوا إلى الزنزانة،
لعلّهم ينتصرون على رمز،
على فكرة اسمها مروان البرغوثي.
قال ألبير كامو:
"المتمرد هو الإنسان الذي يقول لا."
ومروان، في كل لحظة داخل العزلة،
يقول "لا" —
لكنها ليست "لا" شخصية،
بل "لا" شعب،
"لا" تمتد من غزة إلى رام الله،
ومن الزنزانة إلى الجامعات،
ومن صمته إلى كل لسان ولغة،
لقد ظنّوا أن اقتحام عزلة مروان هو استعراض قوة،
لكنهم لم يفهموا أن الفكرة حين تُستفز — تشتعل.
الفكرة لا تموت بالسجن،
بل قد تبدأ من هناك.
وحسب النبوءة:
عاد مروان إلى رام الله،
صافح الشهداء الذين أصبحوا طين الأرض،
وجلس على شرفة تطلّ على الضوء،
بينما ظلّ "ابن غفير" يزعق في زنزانة فارغة،
يصرخ في الفراغ،
كالجلاد الذي فقد ضحيته،
وبالتالي فقد مبرر وجوده.
قال إدوارد سعيد:
"المنفى ليس فقط موقعًا جغرافيًا، بل شرطًا وجوديًا."
ومروان يعيش المنفى والوجود في آن،
سجينًا في الجغرافيا،
حرًّا في الزمن والرمز والذاكرة،
الاحتلال اليوم في أضعف لحظاته،
ليس لأنه فقد القوة،
بل لأنه فقد البوصلة،
صار يعربد في ظلام السجون،
يضرب الأسير كي لا يسمع أفكاره،
ويُخفي جثث الضحايا كي لا يرى فشله.
لكن الفكرة، كالنور،
لا تُخفى.
ومروان ليس جسدًا فقط،
هو ذاكرة جماعية،
هو صرخة تستعصي على التكميم،
قال فرانز فانون:
حين يصبح الإنسان واعيا بمصيره، يصبح القيد أضعف من الارادة،
لهذا كانت صورة مروان اخطر من أي بيان ع سكري،
لانها تفضح انهيار القامع،
وهو يضرب ويتنمر في الزنزانة،
كمن يعوي على ماضيه الضائع،
إنها لحظة فلسفية في التاريخ،
حين يصبح المحتل تائها،
يلاحق فكرة أكثر مما يلاحق رجلا،
يحاول قتل ما لا يقتل،
المعنى،
هو سؤال وجودي يوجّه إلى كل جلاد:
"ماذا تفعل بالقوة… حين تواجه من لا يحتاج إليها ليقاوم؟"