صفقة الهدنة في غزة ، بين حسابات نتنياهو وتشابكات الإقليم .
مروان إميل طوباسي

صفقة الهدنة في غزة ، بين حسابات نتنياهو وتشابكات الإقليم .
* مروان إميل طوباسي .
تتقاطع الأحاديث المتزايدة عن اقتراب التوصل إلى صفقة هدنة في غزة مع تعقيدات داخلية إسرائيلية وضغوط إقليمية ودولية متنامية ، في وقت تستمر جرائم المحارق ويتم فيه التحضير لإعادة احتلال مدينة غزة وتهجير أهلها الى الجنوب . فالمشهد لا يقتصر على ترتيبات ميدانية مؤقتة بقدر ما يعكس محاولة لإدارة صراع أوسع وفرض وقائع جديدة ، تتداخل فيه حسابات نتنياهو السياسية والشخصية ، مع أولويات الإدارة الأميركية ، ورهانات الأطراف الإقليمية التي ترى في الهدنة محطة لإعادة التموضع أو تعزيز أوراقها في المرحلة المقبلة .
فمن جهة إسرائيل ، يبدو نتنياهو فيها محاصراً بجملة من التحديات ، فالرجل الذي يواجه احتجاجات داخلية متصاعدة ، وانقسامات في ائتلافه الحكومي بين وزراء اليمين المتطرف الذين يرفضون أي تنازل ، وبين المؤسسة العسكرية التي تدرك حدود القوة في غزة ، يجد نفسه مضطراً للتفكير في هدنة مؤقتة كخيار براغماتي . فنتنياهو يدرك أن استمرار الحرب بلا أفق سيُفاقم مأزقه السياسي ويهدد مستقبله الشخصي في ظل ملفات الفساد والجرأئم المعلقة . بينما يمكن للهدنة أن تمنحه فرصة لالتقاط الأنفاس ، وإعادة ترتيب أولوياته على طريق تنفيذ مشروع "إسرائيل الكبرى" ، وربما تحسين صورته أمام المجتمع الدولي والبيت الأبيض على وجه الخصوص في شأن شكل المسار بالرغم عن الإتفاق على جوهره بين الطرفين الشركاء .
أما الولايات المتحدة ، فهي الطرف الأكثر تأثيراً في رسم حدود هذه الصفقة التي يتم الحديث عنها . فإدارة ترامب ، التي تدرك أن استمرار الحرب بلا سقف زمني يضر بمصالحها مع حلفائها في المنطقة ويُضعف جبهتها العالمية أمام روسيا والصين ، تسعى لإخراج تفاهم يحقق أكثر من هدف في آن واحد يتمثل في ،
أولاً : تخفيف الضغوط الشعبية والدولية التي تتهمها بالتواطؤ وحتى الشراكة في المأساة الإنسانية بغزة .
ثانياً : إعطاء إسرائيل "مخرجاً مشرفاً" يوقف النزيف دون أن يُفسَر كهزيمة عسكرية .
وثالثاً : تهيئة المناخ السياسي لمسارٍ تفاوضي أوسع يتقاطع مع حسابات واشنطن في الملف الإيراني واللبناني والسوري بعد ان تم تطويعه وحماية أمن الملاحة الإقليمية واستقرار حلفائها في الخليج وتنفيذ رؤيتها حول "الشرق أوسط الجديد" .
على الصعيد الفلسطيني ، تبدو "حماس" معنية بصفقة الهدنة باعتبارها فرصة لتعزيز موقعها التفاوضي ووقف مزيد من الدمار في غزة بعد تكرار الحديث عن أخطاء حساباتها ومغامرتها في شأن شكل وأسلوب المقاومة ، رغم حق شعبنا بامتلاكها من حيث المبدأ طالما بقي تحت الأحتلال . وفي الوقت نفسه تسجيل إنجاز سياسي عبر فرض شروطها في ملف الأسرى لتمكينها من البقاء "كطرف سياسي متجدد" ، أو كمقاومة مستمرة حتى الان من جهة اخرى بعد اشتباك خان يونس امس الذي سعت من خلاله وفق تصورها لإعادة التأكيد أن معادلة القوة لا تزال مفتوحة ، وأن كل إعلان إسرائيلي عن الحسم أو السيطرة يبقى هشاً أمام الواقع الميداني .
ومن جهة السلطة الوطنية الفلسطينية التي نحن في شأن انتقالها الضروري الى مؤسسات دولة تحت الأحتلال باجرأءات ديمقراطية واسعة تعتمد حق الشعب كمصدر للصلاحيات ووحدة الارض والشعب والقضية والقرار المستقل ، فإن أي ترتيبات ما بعد الهدنة ستبقى اختباراً حقيقياً لمكانتها ، خصوصاً مع تصاعد النقاش حول دورها المحتمل في إدارة غزة ، أو في ضرورة تشكيل حكومة وحدة وطنية تواجه التحديات القادمة في كل الوطن المحتل تحديدا في أدارة غزة وفي شأن متطلبات الاستثمار الفعلي لمسلسل تزايد الأعترافات بالدولة وتصاعد جبهة التضامن الدولي غير المسبوقة وربطها بآليات إنهاء الأحتلال الأستيطاني اولاً كشرط لمنطقية مبدأ حل الدولتين الذي تم الحديث عنه في مؤتمر نيويورك دون اسس واضحة تفضي الى الدولة الفلسطينية ذات السيادة كشرط لتلك المعادلة .
وهنا يدخل البُعد الإقليمي كعنصر لا يمكن تجاهله ، فمصر وقطر تلعبان دور الوسيط المباشر في المفاوضات ، بينما تتابع تركيا وإيران التطورات بعين مصالحهما على إعادة رسم موازين القوى في المنطقة . بالنسبة لأنقرة، يشكل أي وقف لإطلاق النار فرصة لإبراز نفسها كقوة داعمة للقضية الفلسطينية ، بما يعزز حضورها في ملفات إقليمية أخرى خاصة في سوريا بالتعاون مع الولايات المتحدة ودول اخرى بعد النجاح النسبي لهم في فرض نظام الأمر الواقع "الشرع" الذي بات يقبل بكل الاجراءات الأسرائيلية في سوريا ، وفي تقاطع مصالحها مع اسرائيل التي تسعى الى تنفيذ مشروع "ممر داوود" .
أما طهران ، فإنها تنظر إلى الهدنة باعتبارها فرصة لترتيب أولويات ما تبقى صامداً من جبهات "محور المقاومة" خاصة في لبنان مع تشديد الاشتراطات الأمريكية حتى العراق واليمن ، دون التفريط بالضغط الاستراتيجي على إسرائيل وتحقيق انجازات في مفاوضاتها مع الأوروبين وحتى مع الولايات المتحدة بشأن الملف النووي وتهديدات "ممر داوود" الذي يقترب مساره عند حدودها في إربيل .
كما أن الموقف العربي في ظل واقعه القائم يبقى متبايناً بين دول ترى في الهدنة ضرورة إنسانية واستقراراً أمنياً يُجنبها مخطط التهجير الى أراضيها وتداعيات انفجار إقليمي أكبر متعلق بالتهديدات الأسرائيلية الاخيرة بحقها مثل الشقيقة الأردن ، وبين أطراف أخرى تنظر إليها كمدخل لإعادة إطلاق مسار سياسي قد يتقاطع مع مشاريع إعادة الإعمار والتطبيع الجزئي دون مواجهة مع الولايات المتحدة .
وهنا يبرز سؤال جوهري ، هل ستتحول "الهدنة" إلى محطة انتقالية نحو تسوية أوسع بالمنطقة ، أم ستبقى مجرد استراحة قصيرة تسبق جولة أخرى من المواجهة واستمرار مخطط الإبادة والتهجير وتنفيذ مشروع تقسيم الضفة الغربية وعزل القدس .
ما يزيد المشهد تعقيداً هو أن الأطراف كافة ، رغم إدراكها الحاجة إلى هدنة ، تتعامل معها باعتبارها ورقة في لعبة كبرى لا تنتهي عند حدود غزة . نتنياهو يراها أداة لتفادي الانهيار السياسي وربما للبقاء في الحكم وتنفيذ الرؤية الصهيونية التوراتية خاصة في مناطق الضفة الغربية بما فيها القدس . واشنطن تعتبرها مدخلاً لإدارة ملفات الشرق الأوسط بحد أدنى من الانفجارات لا تعرقل مصالحها ومشاريعها الأوسع . حماس تسعى لتحويلها إلى اعتراف عملي لوزنها ولمكانتها "السياسية المتجددة" ، والقوى الإقليمية تراها فرصة لإعادة التموضع وتحصيل مكاسب استراتيجية .
أما الشعب الفلسطيني ، فهو من يدفع الثمن الأكبر ، ويُعلق آماله على أن تُترجم هذه الترتيبات المؤقتة إلى مسار يًنهي الأحتلال ويحقق الحرية والكرامة ويوقف المحرقة الجارية في غزة اولاً .
الواقع أن أي هدنة لا يمكن قراءتها بمعزل عن طبيعة الصراع نفسه ، الذي أثبتت أحداث الأشهر الطويلة الماضية بل العقود السابقة منذ جريمة النكبة الاولى أنه أعمق من أن يُحل بتفاهمات إنسانية أو أقتصادية أو أمنية محدودة . فغياب أفق سياسي عادل يُفضى الى حق تقرير المصير لشعبنا واستقلاله الوطني بعد إنهاء الأحتلال الإستعماري ، واستمرار سياسة الأستيطان والتهجير وعدوان التطهير العرقي تجعل من أي صفقة مؤقتة مجرد محاولة لإدارة الأزمة لا حلها . وهذا يعني أن الطريق ما زال طويلاً وشائكاً ، وأن مستقبل فلسطين بما فيها غزة والمنطقة سيبقى مرهوناً بقدرة الشعوب وقواها السياسية على فرض مشروع وطني تحرري جامع يواجه منطق القوة والأستعمار بإرادة سياسية ورؤية واضحة لها متطلباتها واستحقاقاتها الداخلية الفلسطينية والعربية التي أصبحت معروفة للقاصي والداني من حيث اجراءات ترتيب البيت الداخلي الفلسطيني والموقف العربي حتى يكون موحداً وقادراً على مواجهة التحديات القادمة .