الذكاء الاصطناعي والإدمان الرقمي

عبد الرحمن الخطيب
مع تزايد الاعتماد على الذكاء الاصطناعي في تصميم التطبيقات وتحديد نوعية المحتوى الذي يصل إلى المستخدمين، بدأ يتصاعد الحديث عن علاقة هذا التطور بما بات يُعرف بـ"الإدمان الرقمي".
الإدمان الرقمي ليس مصطلحاً عابراً، بل هو واقع ملموس يعيشه الملايين حول العالم، ويشير إلى تلك الحالة التي يجد فيها المستخدم نفسه غارقا في التمرير اللانهائي والتفاعل المستمر مع المحتوى دون أن يشعر بمرور الوقت أو بجدوى ما يقوم به وما كان يُعد سلوكاً شخصياً في الماضي، أصبح اليوم نتيجة تصميم متقن يقوده الذكاء الاصطناعي، الذي يتعلم من سلوك كل فرد ويعيد صياغة تجربته الرقمية بشكل يُبقيه مشدوداً ومرتبطاً بالشاشة.
ما يُثير القلق حقاً هو أن هذه الخوارزميات لا تُستخدم فقط لتحسين تجربة المستخدم بل لتطويعها تجاريا أيضا، فكل دقيقة إضافية يقضيها المستخدم على منصة ما تعني فرصة أكبر لعرض إعلان أو جمع بيانات إضافية تُستخدم لاحقًا في الإعلانات الموجهة وبذلك تتحول منصات مثل فيسبوك وإنستغرام ويوتيوب إلى بيئات رقمية مدفوعة بهدف أساسي وهو إبقاء المستخدم لأطول فترة ممكنة.
شركة ميتا المالكة لفيسبوك وإنستغرام أعلنت مؤخرا أن استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي في أنظمة التوصية لديها ساهم في زيادة وقت بقاء المستخدمين بنسبة 5٪ على فيسبوك و6٪ على إنستغرام خلال الربع الأخير ويُنظر داخل الشركة إلى هذه الأرقام كدليل على نجاح الخوارزميات الجديدة، إلا أن المتابعين من خارجها يطرحون أسئلة صعبة حول ما إذا كانت هذه الزيادة تعكس تحسينا حقيقيا في تجربة المستخدم أم مجرد تسريع لوتيرة الإدمان الرقمي.
الذكاء الاصطناعي اليوم لا يقدم فقط محتوى ملائما استنادا على اهتمامات المستخدم بل يعيد تشكيل هذه الاهتمامات باستمرار من خلال تكرار أنماط معينة من الصور والمقاطع والمعلومات هذا التكرار المُعد بدقة يؤدي إلى حالة من "الإشباع الفوري"، حيث يبحث المستخدم لا شعوريا عن المزيد من المحتوى المُرضي نفسيا حتى وإن لم يكن ذا قيمة حقيقية ومع مرور الوقت تتآكل قدرة المستخدم على الفصل بين التسلية العابرة والاستخدام المفيد ويبدأ في الانزلاق إلى دائرة من الاستهلاك غير الواعي.
الجانب الأخطر في هذه العملية هو أن الذكاء الاصطناعي يتقن استخدام علم النفس البشري فيعتمد على أساليب التحفيز المتقطع وهي نفس التقنيات المستخدمة في ألعاب المقامرة حيث تُمنح المكافآت بشكل غير متوقع مما يعزز الرغبة في الاستمرار هذا ما يفسر تعلق المستخدمين بمنصات مثل تيك توك أو إنستغرام Reels حيث المحتوى قصير وسريع ومثير ويتم تقديمه بوتيرة لا تمنح العقل فرصة للاستراحة أو التقييم.
كذلك فإن فئة المراهقين والأطفال هم الأكثر تأثرا بهذه الخوارزميات نظرا لضعف قدرتهم على التحكم الذاتي وهو ما فتح باب النقاش عالميًا حول ضرورة سن قوانين تحمي هذه الفئة من الاستغلال التجاري للذكاء الاصطناعي، دول حول العالم مثل فرنسا وألمانيا بدأت في فرض قيود على استخدام البيانات الشخصية للأطفال في بناء خوارزميات التوصية في حين بدأت شركات أخرى مثل آبل في تقديم أدوات للرقابة الأبوية والتحكم في وقت الشاشة.
لكن السؤال الأهم يبقى: هل الذكاء الاصطناعي هو السبب المباشر للإدمان الرقمي، في الحقيقة لا يمكن تحميل الذكاء الاصطناعي وحده المسؤولية، لأنه مجرد أداة المشكلة الحقيقية تكمن في طريقة استخدامه، وفي الأهداف التي وُضع من أجلها، فإذا كان هدف الشركات هو فقط زيادة التفاعل بغض النظر عن جودة التجربة أو صحة المستخدم النفسية، فإن الذكاء الاصطناعي سيتحول من نعمة إلى نقمة.
الحل لا يكمن فقط في تطوير تقنيات أكثر "أخلاقية"، بل في إعادة النظر في العلاقة بين الإنسان والتكنولوجيا، فهناك حاجة ملحة إلى تعزيز التوعية الرقمية لدى المستخدمين وتعليم الأطفال من الصغر كيف يميزون بين الاستخدام النافع والمدفوع بالإغراء، كما يجب على الحكومات والمؤسسات أن تضع أطرًا قانونية واضحة تنظم استخدام الذكاء الاصطناعي في المجالات التي تمس النفس البشرية مباشرة.
في النهاية الذكاء الاصطناعي ليس عدواً للإنسان، لكنه قد يتحول إلى عدو خفي إذا استُخدم بطريقة غير مسؤولة، ويبقى التحدي الأكبر أمام العالم الرقمي الحديث هو كيف نستخدم هذه التقنية لصالح الإنسان لا لتحويله إلى مُستهلك سلبي في دوامة لا تنتهي من الترفيه والتفاعل.