رقصة البحر الأبيض المتوسط والحنين إلى البندقية

رقصة البحر الأبيض المتوسط والحنين إلى البندقية
سعدات عمر
خلال قرون عديدة كان السلام يعني غياب الحرب، والاستقرار يعني غياب التغيير، أما في عالم اليوم فلا يمكن تحقيق الإستقرار بدون تغيير هذا يعني أن السلام عملية تَطوُّر خلَّاق لا ينقطع، ولا يكفي أن نقضي على الحرب. فالسلام يقتضي التقدم المستمر في حاجات الإنسان المادية والروحية، وإن الوجه الأول لبناء السلام هو أن يُضمن لكل بلد من بلدان العالم سيادته داخل حدوده وحقه بأن ينمو في اطمئنان وأمان، وأن يُقرر مصيره بنفسه دون تَدَخُّل من الخارج، والسلام يفترض كذلك الحاجة إلى تحقيق التقدم في المسائل السياسية التي تُقسٍُم العالم. كما أنه يفرض علينا نحن بالأعمال لا بالأقوال أن نوجد الثقة المتبادلة، وعندما يُنظر إلى المستقبل يُصبح السلام جزءاً من المهمة البشرية، ولكن الجزء الأهم هو بذل الجهود لتوطيد بناء السلام. حَطَّ أبو عمار قبل أكثر من ثلاثة عقود ترحاله في أرض الوطن، وانحنى على الأرض المباركة يبحث عن قلب القضية فالتقطه حبات حبات كما تجمع فلاحات فلسطين حبات الزيتون ومن يومها تغيرت الطريق، وقد وجدت الكوفية مُتسعاً من الوقت. الآن يأتينا هذا القول نفسه عن عمق أعوام وأعوام ليضيف إلى نفسه سعة وعمق جديدين، شيء كهذا يُمرٍّنَ الذاكرة، والبصيرة، وإن مُجرَّد البحث يعني رفض الإندماج بالضياع ونحن نبتعد قليلاً عن الذكري ال 77 من عمر النكبة من عمر الطريق الصعب ليقود القضية التي تحتضنها فلسطين لنقول لأبي عمار الذي احتضن القضية وفلسطين معاً لا يزال إسمك وتاريخك حضناً دافئاً لهما معاً، وعلى الطرف الثاني إسرائيل من المحاولة دليل على أنها ضائعة طالما لم تجد السلام والأمان ذاته. الآن القضية وفلسطين وأبو مازن ثلاثة لكن معناها واحد، وهذه الكلمات الحارة البسيطة النابضة اعتزازاً بالتمسك بالثوابت، إنها كلمات صارمة حازمة محددة لمدلولاتها وأبعادها بوضوح ودقة، كما هي في منطق الواقع ومنطق العدالة. بعثر أطفال فلسطين على الحصى الذي يُشبه قلوبهم فحولوه بأصابع مُلتهبة إلى كلمات تجعلهم حتى اللحظة في حوار مع البلد البعيد فيصير لغة قابلة للتجسيد وتصير الأرض العربية التي يُخاطبونها غربة ثانية، ولكن ليس صحيحاً أن أطفال فلسطين يخافون، وحين تدوي رصاصات وقذائف القتل والغدر كأنها حفلة زفاف تحدث في المساء. فأصبحت هذه الرصاصات وهذه القذائف أبعد نقطة في العالم مرة أخرى للقضية وفلسطين وذكرى استشهاد أبو عمار. القضية هنا أعزائي القُرَّاء هي علم الحرية والسلام أي أن يرتفع علم الحرية والسلام منتصراً ساحقاً كل علم يُراد له أن يرتفع شاهراً سلاح العداء للحرية، والسلام. أما فلسطين فهي القضية ذاتها، وهي التي وُلدت ترفع علم الحرية والسلام ذاته بجسارة وعناد، وستعيش حامية لهذا ???????? ذاته بأمان ودأب. أما أبو مازن آخر طلقة في الوحدة الفلسطينية فها هو يقول القول الذي يأتينا من عمق الزمن ليضيف إلى نفسه سعة وعمقاً جديدين هو ذا نفسه يقول لنا تلك الكلمات الحارة البسيطة النابضة المحددة أبعادها بدقة ووضوح بعد الفوز فبالجمعية العمومية للأمم المتحدة أكمل طريقه إلى رام الله ووقف عند مدخلها وهو واثق أنه سيحد القدس بين آلاف الوجوه، ولن يخشى الليل القادم من آلات الدمار الإسرائيلية هذا هو طعم رام الله دائماً. بعد نكسة حزيران 1967 كما كان بعد نكبة أيار 1948 جد الفلسطيني البحث عن العرب كشعب، ولكنه وجد الزنزانة، والنظام الوقح كانت آخر حدود العالم، وليست أولى المحاولات، والخيبة وكان الضمير العربي هنا يتآكل في الزمن وتصير فلسطين صخرة وعصفوراً في آن واحد. فالواقع في حالته الراهنة حتى وإن لم يكن قانونياً لا يعود جزءاً منه بدون رباط الحلم الذي يصير أكثر واقعية من شحرة ثانية، والحلم على حالته العامة وإن لم يكن مُترفاً لا يعود حافزاً بدون ارتباط بصخرة مهما تغيرت أشكالها. صحيح أن الأشياء لا تكون مقدسة إلى هذا الحد إلا إذا كانت حالتها محكاً للإنتماء إلى الوجود إلا إذا كانت موضوع صراع، وصون الجمل الثورية، والفكرية، وهذا هو الكرامة البشرية، لكن لا يستطيع الإنسان أن يُمارس حقاً حقيقياً إلا في وطنه، وأيضاً للمحرومين من الوطن وطناً، ومن حُسن الحظ أن وطننا فلسطين حقاً وجمال. إنه حلم في واقعه، وواقع في حلمه، نحن لا نشتاق إلى قفر لكننا نشتاق إلى جنة نشتاق إلى ممارسة إنسانيتنا في مكان لنا. لقد وقفت حياة آلاف الضحايا والشهداء عند هذه النقطة، لم يكونوا مخدوعين بعضهم ما رآه ولا شاهده فمات من حب العدوى، ولكن الخارطة ليست على خطأ دائماً، وليس التاريخ على خطأ دائما. إذن لماذا اجتمع الأنبياء، والفقراء، والغزاة على حبه حتى درجة الموت؟؟. إن الرقصة أعزائي القراء التي يمارسها البحر الأبيض المتوسط على شواطئ فلسطين من الناقورة حتى خاصرة غزة ستنتهي بولادة بحر شعبي هادر بوعي الملايين من الخليج العربي إلى المحيط الأطلسي، وهنا لا بد أن تبرهن القدس على أن الصخور قادرة على امتلاك حيوية اللغة هذا هو وطني وطن كل فلسطيني. لم يكن جمال عبدالناصر، والملك فيصل بن عبد العزيز. وأبو جهاد الوزير، وأحمد ياسين، وأبو عمار، وراشيل كوري يُبالون الموت حين شمُّوا أزهار الليمون والبرتقال في بيارات يافا وغزة وغور أريحا في موعدهم فماتوا هذا هو الفردوس المفقود. احذروا هذا المُصطلح لأن القناعة به تسليم بحالة إلهية، وقانونية، ووجودية بلغت حد النهاية، والفرق بين الفردوس المفقود بالمعنى المُطلق، وبين الفردوس بالمعنى الفلسطيني هو خلو حالة الحنين، والانتماء النفسي والشرعي من منطقة الصراع ما دام الصراع قائماً فإن الفردوس لا يكون مفقوداً بل مُحتلاً وقابلاً للاستعادة بالتحرير. هنا لا أعني الارتكاز إلى مفهوم خسارة المعركة، وعدم خسارة الحرب الذي ينطوي على دفاع عن النفس أمام خسارة المعركة، ولكنني أعني أنه ليس بوسع الإنسان الفلسطيني أن يُعامل وطنه بهذا المفهوم كما يُعامل العرب فلسطين، وكما ينتظر المؤمنون الجائزة. إن بين فلسطين، والضمير العربي فرقاً يُشبه الموت، وإن بعض السُّذَّج الثوريين ممن ينظرون إلى المسألة من زاوية التشابه حسب النية وسيء النتيجة ينطلقون من موقع الشكلية، وضيق التضامن فكانوا سبباً لتدمير قطاع غزة بالكامل بشراً وشجراً وحجراً. إنهم سيبكون بالتأكيد أكثر منا لو سلمنا بهذا التشابه، وحاصرنا حقوقنا، ووجودنا بسياج الحنين الملهم، ولكن حين يلجأ الحنين إلى البندقية تعبيراً عن بُعد المسافة بين فلسطين والضمير العربي فسنجد هولاء السُّذَّج المُغرقين ببكاء الشعوب القديمة يحتجُّونَ على انتهاك جمال الإنسجام التاريخي، وإصابة الحالة الفلسطينية بتراكم الدموع، وفقر الدم، ويتركون إسرائيل ترتكب الجريمة وتنفيها تماما كما يحدث اليوم في غزة.