بين نقد المشروع الإيراني وتبرئة الصهيونية.. تحذير من الخطيئة السياسية

مروان إميل طوباسي
في خضم هذا العدوان الإسرائيلي الوحشي المتواصل ضد شعبنا الفلسطيني، وعلى إيران أمس في انتهاك صارخ للقانون والأعراف الدولية، وما تبعه من ردود إيرانية بإطلاق رشقات صاروخية استهدفت مواقع إسرائيلية وأحدثت أضرارا ملموسة وغير مسبوقة في تاريخ الصراع مع إسرائيل وفق ما توقعته في مقالي يوم أمس، يُعاد فتح ملفات قديمة/ جديدة في العقل السياسي العربي والفلسطيني، حول طبيعة الصراع، وتموضع الخصوم والحلفاء، وهوية التهديد الحقيقي .
لقد بات واضحاً أن الردود الإيرانية لن تكون حادثا عرضيا أو موضعيا فحسب، بل جزءاً من تحول أعمق في قواعد الاشتباك في المنطقة وسياسات الردع . لكن الأهم من تطورات الميدان، هو ما يظهر على مستوى السردية والخطاب، إذ نُفاجأ مجدداً بأصوات فلسطينية وعربية قليلة تهاجم المشروع الإيراني بعنف يفوق عنفها ضد الاحتلال، وتُحمّله مسؤولية ما يجري، بل وتتهمه بأنه السبب في تصاعد المشروع الصهيوني ذاته !
ليس المطلوب أن نقدّس المشروع الإيراني، ولا أن نتفق معه دون مساءلة أو نقد أو خلاف، ولا المطلوب أن نلتحق به. فإيران كدولة لها مصالحها وحقها بامتلاك ما تراه مناسباً من السلاح بما فيه تطوير مفاعلاتها النووية ورؤيتها ومشروعها الإقليمي، كما تركيا التي تحلم بإعادة مشروعها العثماني، وكما كان يُفترض أن تكون لنا نحن العرب أيضا مشاريع عربية مستقلة ونهضوية أو مشروع قومي واحد لم يسمح الغرب به ولم يسمح لزعمائه المخلصين من استمرار لحياتهم ، فاغتالوهم. لكن الخطأ الفادح، بل الخطيئة السياسية، هي في أن يتم تصوير إيران كخطر وجودي علينا مقابل تبرئة المشروع الصهيوني أو التعامل معه كـ"واقع يجب التعايش معه"، او التحالف معه لمواجهة مشروع الإسلام السياسي رغم ما يفرقنا مع هذا المشروع الذي تتبناه حركة الإخوان المسلمين العالمية بكل ما لنا عليها من تحفظات ومعها من خلافات بحكم انها أيضا وليدة مصالح استعمارية غربية وأداة لمشاريعها منذ ما قبل ما سمي بالربيع العربي المشوؤم التي تدفع شعوبنا العربية ونحن الفلسطينيون منهم بشكل خاص اليوم ثمن تداعياته وإسقاطاته .
من منطلق وطني خالص، علينا أن نُعيد تثبيت البوصلة، فالمشروع الصهيوني هو المشروع الوحيد في المنطقة الذي وُلدَ واستمر على قاعدة الإحلال الاستيطاني من خلال الإبادة والمحارق والاقتلاع والتهجير وتفكيك الشعوب بالمنطقة وتدمير الدولة الوطنية بغض النظر عن إخفاقات تلك الدول وغياب الديمقراطية فيها. هو المشروع الوحيد الذي لا يتوقف عن حرق غزّة، واجتياح جنين ونابلس وطوباس وبيت لحم والخليل وتدمير مخيماتنا وتهويد القدس وحصارها وعن توسيع الاستيطان الإحلالي وضم المناطق وسياسات القتل اليومي وممارسة الأبرتهايد وقانون الفوقية القومية اليهودي العنصري ضد أبناء شعبنا بالداخل، بل وتصفية كل ما هو فلسطيني، عربي أو مقاوم لمشروعها العنصري ولعقلية الهيمنة المتوحشة للولايات المتحدة التي لم تتوقف عن جرائمها بحق شعوب العالم عبر تاريخها .
أما إيران، فمهما اختلفنا أو اتفقنا معها وهذا حق لكل منا في إطار تعددية الفكر والآراء، فهي لم تحتل او تستعمر أرضاً فلسطينية، ولم تبن مستوطنات على أنقاض قرى فلسطينية ولم ترتكب جرائم النكبات والإبادة ولم تهجر شعبنا قسراً، ولم تمنح الغطاء السياسي والدبلوماسي لجرائم الاحتلال كما تفعل دول كبرى او صغرى تدّعي "الحياد" و"الديمقراطية".
من حق الشعوب أن تُبدي تحفظاتها على السياسات الإقليمية لأي دولة كانت، بما فيها إيران ومشروع دولة الفقيه فيها الذي حاولت ان تتوسع به وتفرضه في مجتمعات اخرى عربية، وهو ما يُسجل عليها من خطأ تعيد تقييمه اليوم. لكن ذلك يجب أن يتم من موقع وطني نقدي مستقل، لا من موقع التبعية لخطاب صهيوني غربي يُعاد تدويره وإشاعته الآن بيننا .
المشكلة ليست في انتقاد إيران، بل في طبيعة الانتقاد وسياقه وأهدافه اليوم. فحين يتحول النقد إلى تبرير للتقارب مع إسرائيل صاحبة المشروع الاستعماري الإحلالي "إسرائيل الكبرى" في منطقتنا وفقا للعقلية الصهيونية والأساطير التوراتية والتلمودية، أو إلى حشد ضد الرؤية الوطنية، أو إلى تحشيد طائفي يشعل النيران داخل المجتمعات العربية، فإن هذا ليس نقداً وطنياً موضوعياً، بل اصطفاف في معسكر الهيمنة والإخضاع الصهيوني العالمي بمكوناته المختلفة .
إن ما يسمح بازدهار المشاريع الإقليمية غير العربية هو بالأساس، غياب المشروع القومي العربي النهضوي. لقد أُفرغت الساحة من كل أفق استراتيجي عربي جامع، بسبب أنظمة لم تُنتج إلا التبعية والاستسلام والفساد وتغييب الديمقراطية وترسيخ ديكتاتوريات الفرد، واختارت أن تتحالف مع الرؤية الأمريكية للمنطقة، التي تكرّس "إسرائيل الكبرى" كمركز ثقل سياسي واقتصادي وعسكري في مشروعها "الشرق الأوسط الجديد" التي تسعى لهندسته بما يحقق مصالحها وتقهر به شعوب المنطقة تحت أوهام الحلول الاقتصادية والازدهار ونشر الديانة الإبراهمية المزعومة .
وبدلاً من بناء توازن إقليمي مستقل لمواجهة المشروعين الصهيوني والاستعماري الغربي، جرى تمزيق الجغرافيا السياسية العربية بين محاور متناحرة لا تلتقي على أي مشروع تحرري حقيقي، بل بات البعض منها يرى بإيران عدوا لها بدلاً عن العدو الطبيعي إسرائيل، والتي تسارع الى تنفيذ مشاريع التطبيع معه وفق التعليمات الأمريكية .
إن محاولات تصوير إيران كتهديد أساسي أول، وشيطنة كل من يدعم رؤية المقاومة الفلسطينية باشكالها المختلفة ومنها السياسية والدبلوماسية والثقافية، الى جانب مكونات الهوية التحررية العربية، هي ليست سوى محاولات لإعادة صياغة العقل الجمعي العربي وفق منطق الاستسلام والقبول بالإذعان. هذا خطاب يُخاطب الغرائز الطائفية والمخاوف الزائفة، لكنه يتجاهل حقائق التاريخ والجغرافيا المتمثلة في أن فلسطين لا تزال محتلة بل تتعرض هويتها وكيانها ووجودنا فيها الى التصفية والإلغاء، وأن تل أبيب هي العاصمة الفعلية للعدوان والهمجية بكل الإقليم كدولة مارقة وفوق المحاسبة والعقاب، وأن من يُطلق النار على غزة والضفة بما فيها القدس هو العدو، لا من يدعم حقنا في الدفاع عن النفس والوجود وتقرير المصير .
إننا اليوم في لحظة وعي حاد، وعلينا أن نُعيد التذكير، بلا لبس، بأن عدونا هو المشروع الصهيوني الاستعماري الإحلالي، وليس إيران مهما كانت تحفظاتنا عليها او خلافاتنا معها ان وجدت منذ إسقاط حكم الشاه المتعاون مع مشروع أعدائنا بالمنطقة . وأي خطاب يُعادي فكر ومضمون المشروع الوطني التحرري الفلسطيني بحجة معاداة إيران، هو خطاب مضلل، يخدم الاحتلال ويشوه جوهر قضيتنا الوطنية التحررية والديمقراطية .
إن مستقبلنا الفلسطيني والعربي لن يُبنى على التبعية، ولا على شيطنة مشروعنا الوطني من اجل حقنا في تقرير المصير واستقلالنا الوطني، بل على إعادة صياغة مشروعنا الوطني في ظروف حالة اليوم الدولية، وإلى بناء مشروع عربي نهضوي قومي مستقل، يُحسن قراءة التحولات الدولية الجارية ومنها التحالف الاستراتيجي الصيني الروسي الإيراني الذي ساهم في تسوية الخلافات وتحقيق المصالحة السعودية الإيرانية وتوسيع تحالف "البريكس"، ويعيد تثبيت البوصلة على مركز الصراع، بدحر الاحتلال أولاً وأسقاط المشروع الصهيوني بالمنطقة وفي فلسطين أساسا التي تبقى هي الوطن لنا، وغياب العدالة عنها يبقى هو جذر عدم الاستقرار بكل المنطقة، والولايات المتحدة لم تبق هي صاحبة النظام الدولي والمقرر الوحيد فيه.