العنصرية وبُغض الآخر والقوميون العرب

بكر أبوبكر
لطالما ارتبطت العنصرية بالدين أو القومية أو الجماعة مهما كان شكل هذه الجماعة أو مكوناتها. والعنصرية داءٌ يصيب الجماعة أو أفرادها من حيث وجودها فيجعل منطق حماية أو الدفاع عن الجماعة هو الأساس ضد الخطر الحقيقي أو غير الحقيقي المتخيّل أو المتوهم.
وليس هكذا فقط، بل إن منطق تصوّر أو اختراع الخطر يجعل من الشحن والتحريض والكراهية والحقد ضد الآخر سُنّة متبعة لدى العنصريين من خلالها يتنفسون وعبرها يبرزون ويعيشون وعلى تخيل أنهم يحققون تماسك الجماعة.
ومن هنا فإن العنصرية تختلف عن فكرة التماسك، أي تماسك الجماعة وضرورة أن تترابط وتتكاتف وتحمي بعضها بعضًا ضد الأخطار الحقيقية الداخلية والخارجية ولكن دون أية بذرة كراهية أو حقد ضد الأقوام أو الجماعات أو الأديان أو الآراء الأخرى بمعنى أن عنصر التحريض ضد الآخر مرفوض هنا (بمنطق الوحدوية والتماسك) ومقبول في ظلال العنصرية.
العنصرية تستجلب منطق التعصب الأعمى الممزوج بالحقد، وتوهم الخطر أو تضخيمه أوالإقبال على حلّه بالعنف سواء الكلامي أو المادي (حين القدرة أو التمكين)، هو جذوة نار العنصرية المتّقدة تحت إدعاء حماية الدين أو حماية القومية أو حماية الجماعة أو الحزب ما يؤدي لحالة التنابذ وتبادل الكراهية وبالتالي احتقار الحضارات واحتقار الجماعات (رفضًا لمفهوم "لتعارفوا" الجليل) فلا يكون بينها إلا كل عناصر الرفضوية للآخر بلا أي امكانية استماع لروح التوافق والحوار والتنازلات المتبادلة أو الوصول لحلول وسط.
العنصرية كما التعصب تشعل نار الغضب الدائم وتشكل حريقًا للاجساد كما الأفكار، وهي بما قد تسمّيه حب القوم أو الدين أو الجماعة ترتكب كل الموبقات لأن مثل هذا الحُب الدموي الذي يدّعي الحرص والدفاع عن الجماعة ما هو الا نَفْسٌ وضيعةٌ مختلةٌ انتصرت لشبقها الدموي وحالة البُغض التي تأصلت لديها نتيجة التعبئة والتحريض والأفكار المتداولة داخل الجماعة.
لا حب يفرض منطق الحرب، ولا حب يفترض إجلال القتل مطلقًا.
لأن الحب أفقٌ مفتوح على المختَلِف قبل المتّفِق بما يشمل تقليص حجم الصراعات وتكبير حجم المتّفقات وبما يعني أن هدف مثل هذا الحب للجماعة أو القوم أو الدين أو المنظمة (التنظيم) يعني تحقيقًا للسلام الذاتي والسلام الداخلي للجماعة وكما هو الأمر بالسلام الخارجي لها.
ظهرت عبر العصور حالات من التعصب الشديد للدين فكانت المذابح ضد المختلفين مذهبيًا أوحتى المختلفين بالرأي كما كان الحال في أوربا وعصورها الطويلة المظلمة حين فتكت بالمذهب المسيحي الآخر، وظهرت في إطار ظهور القوميات في أوربا أيضًا كما ظهرت بصياغة تفوّق "الرجل الأبيض" الذي غزا العالم في تعصب واستعمار (استخراب) بغيض بمنطق أن العنصر الأوربي الأبيض هو عنصر متفوّق بتكوينه! وهو رسول الحضارة وهي إرادة الله كما ادعوا! فصدّر للعالم الكراهية والحقد والتعصب واغتصب بُلدانًا وسرق شعوبًا وقتل الملايين واغتال ثقافات انسانية عدة تحت مِظلّة أنه حامل لواء الحضارة (البيضاء) ضد شعوب آسيا وافريقيا ثم ما كان من سحق ومحق شعوب الأمريكتين واستراليا.
الفكرة هنا أن العنصرية والتعصب ينطلق من الإيمان بفكرة فاسدة تشبع غرور وأحلام السلطة والقوة الصاعدة بلا قيم أو مباديء سامية، لتبرّر منطق احتلالها أو قتلها أو تدميرها للآخرين وهو ذات المنطق الذي مازال مستمرًا مع آخر احتلال مباشر بالتاريخ الحديث أي الاحتلال الصهيوني لفلسطين وأراضٍ عربية أخرى.
ما كانت العنصرية بحقيقة أمرها إلا نفسًا خبيثة وداءً ومرض سرعان ما ينتشر مع إحساس الجماعة بالقوة، أو حتى حين احساسها بالضعف وحاجتها للتراجع والتقوقع حول نفسها وفي الحالتين فإن هذه الجماعة أو الشعب أو أصحاب الدين أو المذهب يتحولون الى دعاة شرّ وقنبلة موقوتة. فما بالك حين يُصبحون قادة العالم كما هو الحال بقادة الولايات المتحدة الأمريكية اليوم الذين ينهلون من المسيحية-الصهيونية بما تشمله معتقداتها من خرافات وأساطير توراتية وهي المترابطة مع شبق شخصي وجماعي للتوسع أو التمدد بما هو غرور القوة والمال والسلطان.
العنصريةُ بأقصى درجاتها وأعظمها لم توجد تاريخيًا الا بما خلفته ما تسمي نفسها (الحضارة الأوربية ثم الغربية) التي أعطت نفسها الحق بالسلب والنهب والقتل بمواجهة الأقوام الهمجية أي باقي العالم والعنصرية بأشد ملامحها مارستها هذه العقلية الأوربية ضد مخالفيها مذهبيًا من ذات الدين المسيحي، وضد من أسمتهم الأقوام البدائية أو الهمجية. وهذه الفكرة هي ما اقتدى بها "هرتسل" في كتابه "دولة اليهود" ليفترض أنه رسولُ الحضارة الغربية الى فلسطين (أو الارجنتين) حسب كتابه ضد "الهمجيين أو البرابرة".
مما لا شك فيه نزولًا بمستوى التعصب لحدوده غير القصوى مما ذكرنا أعلاه والذي مازال قائمًا، فإنك تجده في أدعياء الدين المسيحي أو البوذي أو الهندوسي أو الاسلامي كما تجده لدى أصحاب القوميات أو الأعراق اليوم كما الحال بالتنظيمات السياسية العنصرية القومية الناهضة في أوربا، وآسيا على غِرار ما يحصل في أمريكا التي لا ترى أحدًا اليوم! كما الحال مع الكيان المعجون بالعنصرية المحتل لفلسطين سواء بسواء.
نحن في فلسطين والأمة أصحاب حضارة عربية إسلامية بالاسهامات المسيحية المشرقية ولألفين عام على الأقل، هكذا وجب أن نفهم ونتميز عن حضارة الغرب ثقافيًا وبشخصيتنا الكلية، فلا ننسحق تحت أرجل عقلهم الفردي الاستهلاكي والاستعماري (الاستخرابي) العنصري، ولا ننصاع للغتهم وقيمهم وأخلاقهم التي يلقونها بوجهنا وكأنها مقدسات وما هي بالحقيقة الا تعصبًا للذات الغربية المنفصلة والمهيمنة أو غير القابلة لتقبل الحضارات الأخرى.
انطلقتُ من هذه المقدمة لأشير للفروقات اليوم بين أصحاب القومية العربية بمعنى الحرية والاحتضان والانفتاح، واعتبار اللسان العربي (وليس الجنس العربي) والحضارة المشتركة هي الجامع كما حال "منتدى القوميين العرب" وأمثالهم، وبين أولئك المنغلفين على عنصرهم القومي الإثني الذي لايماثله آخر، وإن كنت أظن أن هذه بذرة العنصرية الجاهلية قد تجدها بنسب مختلفة في داخل أية قومية أو أدعياء دين أو حتى جماعة سياسية فإنك تظل متصلًا كانسان سَوِي بفكرة الحب والانفتاح وفكرة الحوار والاعتراف بالآخر وفكرة مقاومة الظلم والاحتلال ونهب الثروات للشعوب لتظل على قدر من عقلك كبير، ومن انفتاحك الواسع والأثير دون عصبويات دينية أوعنصرية او مذهبية. https://bakerabubaker.net/